علم التحقيق بين التأصيل الحديثى والطرح الغربى
د. مراد تدغوت
باحث ومحاضر فى معهد المخطوطات - القاهرة
العودة لصفحة المؤتمر
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد ربى وأصلى وأسلم على النبى المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد،
فى البداية أود أن أعبر عن سعادتى الغامرة بأن أجلس مجلسى هذا أمام ثلة من العلماء الكرام، وثلة من الباحثين المجيدين، ومن بينهم أستاذى الكبير د. رفعت فوزى مشرف الدكتوراه، وأود أن أشكر أستاذى وشيخى شيخ الديار المصرية للحديث ومعلم الأجيال أ.د. أحمد معبد عبد الكريم على دعوته الكريمة، وإنه لشرف عظيم حسن ظنه بى، وشكرا جزيلا.
فى البداية لا شك أنكم تعلمون أن العلماء القدامى حذروا من التعامل مع الكتب المخطوطة دون شيخ أو أستاذ يبين المزالق والمهالك التى تعانى منها الكتب القديمة، لا سيما فيما يخص طرق الكتابة والإملاء البدائية التى يُخشى منها من تطرق السقط والتحريف، وكذا تصدى أناس غير مجيدين للكتابة والنسخ والمقابلة، لذلك عَمِل علماء الإسلام عامةً والحديث على وجه الخصوص إلى تصحيح الكتب وضبطها ومقابلتها ووضعوا سننا ومنهجا لذلك، وقد تحدث الجاحظ كما تعلمون عن تحريف الكتب، وهو من أقدم النصوص التى نصت على هذه المعاناة التى يعانيها المحقق فى ضبط الكتابة عندما قال "ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفًا أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حُر اللفظ وشريف المعانى أيسر عليه من إتمام ذلك النقص، حتى يرده إلى موضعه من اتصال الكلام، فكيف يطيق ذلك المعرض المستأجر، والحكيم نفسه قد أعجزه هذا الباب" إلى آخر نصه فى كتاب الحيوان.
غير أنه من العبث أن نختصر علم تحقيق الحديث فى مجرد تصحيح الكتب ومعالجة عوائق قد تعترض النص من تحريف أو زيادة أو نقص أو ما شابه ذلك، وإلى ما تعداه إلى مقابلة النص على أكثر من نسخة والتعليق عليه وإدارته بالشروحات المختصرة، ودراسته فى أبواب وفصول توضح تاريخ التأليف ومناهجه وتأثر المؤلف بمن قبله، وأثره فى من جاء بعده، إلى آخر هذه الفصول والمباحث التى ينبغى أن تدرج فى الدراسة، وخدمته بفهارس عامة وكشافات متخصصة.
إن ما جاء به المستشرقون فى هذا الصدد خطوةً مهمة أيضا فى تطور علم التحقيق، على الرغم من العيوب التى اعترت عملهم وجعلته عملا ناقصا، وإن كانت له فى بداية الأمر سمعة طيبة، ووُسموا بالصبر فى هذا المجال، ونالوا التقدير الكبير بما أخرجوا من أمهات الكتب العربية والإسلامية، وما ختمواها به من فهارس وكشافات متنوعة تكشف عن كنوز النص ودرره، كما قدموا للنصوص المحققة بدراستهم عن الكتاب ثم ببيان محتواه، ودراسة النسخ التى اعتمدوا عليها وتوصيفها وبيان منهجهم فى الاعتماد عليها.
وهنا يمكن أن نطرح سؤالا مهما فى هذا الصدد، هل كان المسلمون هم الأصلاء السابقون والمستشرقون هم اللاحقون المقتبسون؟ أم أن هذا كان صادرا عن مناهجهم العلمية ومناهجهم التأملية؟ أعنى هل مناهج التحقيق صادرة عن مناهج غربية محضة أم كانت مقتبسة من علم الحديث؟
لا شك أن حُقَّاق المحدثين سبقوا بتمحيصهم وتدقيقهم فى شؤون التصحيح والضبط، ووضعوا ضوابط لحالات التناقض كالكتب والأحاديث تحملا وأداءً، وكانوا على وعى بالكتابة العربية القديمة وآفاتها، والخط العربى السليم، وخطوط النساخ الجهال، ودورهم الشنيع فى ... القدماء فى ضبط النصوص، لذلك عندما نال المستشرقون ما نالوه من الإطراء والثناء كان ذلك نتيجة ما قدموه من مطبوعات عربية فى أول ظهور الطباعة - وقتها كان العرب ما زالوا متخلفين عن عصر الطباعة - وما أظهروه من إتقان فى طباعة الكتب واعتنائهم بإخراجها، فنالوا ثناء كبيرا من العلماء فى أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر؛ لأنه على الرغم من إفادتهم للوصول إلى المحدثين فى طريقة قراءة الكتب المخطوطة، وفك رموزها، ورموز تصحيحاتهم، ومنهج مقابلتها، والإشارة إلى اختلاف نسخ الكتاب وما فيه من نقص أو زيادة أو مغايرة، إلا أنهم خالفوا منهج المحدثين فى إثبات الصواب فى المتن وإثبات الخطأ فى الهوامش، لذا نجد فى عمل المستشرقين دائما أو غالبا ما يثبتون النسخة كما جاءت، وإذا كان من صواب فسيثبتونه فى الهامش على اعتبار أن النسخة المعتمدة عندهم هى نسخة خاصة (حالة مختصة) ينبغى أن تُدرس على حدة، لذلك خالفوا منهج المحدثين فى تصحيح المتن، على الرغم من بيان خطئه، لذلك وجدناهم مثلا يرون أنه "حتى لو وجدنا خطأ فى الآيات القرآنية فى النسخة المعتمدة ينبغى أن نحافظ عليه كما جاء".
فهل يكفى أن عدد المستشرقين كان مرشدا للباحثين العرب المحدثين؟ وفى مقدمة من قلدهم وصار على نهجهم على حد قول الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله "العلامة الحاج أحمد زكى باشا رحمه الله، ثم مَن صار سَيره واحتذى حذوه، وقد كانت طبعات المستشرقين نفائس تقتنى، وأعلاقا تُدَّخر".
وإذ أردنا أن نستعرض أصول علم التحقيق الحديثى على وجه التفصيل ومقارنته بعمل المستشرقين فإنه من أولى النقط التى جاءت فى تضاعيف كلام المحدثين هى شروط المحقق (فهى شروط طالب علم الحديث، فقد تحدثوا عن بعض شروط طالب الحديث والتى ينبغى أيضا أن تتوفر فى المحقق الآن)، فمن ضمن الشروط التى تحدث عنها المحدثون، ومن أقدم من تحدث عنها على حد علمى الخطيب البغدادى المتوفى سنة 763هـ، ثم بعد ذلك ابن دقيق العيد المتوفى سنة 702 هـ، فقد تحدثوا عن شروط طالب علم الحديث، ومن أهم هذه الشروط هو قدرته على القراءة، وقدرته على استيعاب السماع أثناء عملية العرض أو القراءة على الشيخ.
أما مسألة توثيق النص وتوثيق المؤلف، قد استخدمها المستشرقون بشكل كبير جدا، إلا أن المحدثين سبقوا إلى هذه النقطة أيضا بما ألفوه من كتب فى علم الرجال وعلم اللغة، فكان المحدثون من أوائل العلماء الذين ألفوا كتبا فى علم الرجال وفى تراجم العلماء، فكانت هذه المصادر وهذه الكتب - كما تعلمون - أولى المصادر بالعناية بسمة المحقق لكى يحقق النص ويحقق صحة نسبته لمؤلفه، ولكى ... شُبْة التصوير التى قد تتسلل إلى مجموعة النسخ أو المخطوطات التى قد تُنسب إلى غير مؤلفيها، ففى كتب التراث كتب كثيرة أسهمت فى مساعدة المحقق على توثيق المؤلف وتوثيق صحة نسبة النص، وهى كتب التراجم وطبقات البيبليوغرافية بمختلف أشكالها ومناهجها.
أما ما يخص مسألة الاستقصاء فى جمع النسخ و...، نجد أن المحدثين أشاروا إلى هذه المسألة فى ما يسمى بجمع الطرق، قال ابن المدينى المتوفى سنة 234 هـ "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطأه" لذلك فالمحقق الذى يحقق فى الحديث أو فى غيره إذا لم يسترسل فى جمع النسخ، واستراح إلى نسخة أو نسختين أو ثلاث نسخ، واستنكف عن جمع النسخ وبدى له أن هذه النسخة تكفى، فهذا خطأ - أعتبره فى حد علمى خطأ - لأنه على المحقق أن يسترسل فى جمع النسخ مهما كانت كثيرة، ومهما نقل بعضها عن بعض.
وجدنا مثلا المستشرقة الفرنسية جونفيف أومبير (Geneviève Humbert) التى ألفت كتابا حول كتاب سيبويه، جمعت فيه أكثر من 77 نسخة لسيبويه مكتملة وغير مكتملة فى كتابها (طرق نقل كتاب سيبويه)، فقد وضعت مادة انتشار هذه النسخ، وتحدثت هل هناك سند متصل إلى كتاب سيبويه أم لا؟ وهل سيبويه رُوِى كتابه هذا عن تلميذ من تلاميذه تحمل عنه كتابه؟ فتوصلت إلى أن هناك سندًا منقطعًا بين سيبويه وأقدم من روى كتاب سيبويه وهو الأخفش.
لذلك فالاسترسال فى جمع النسخ – صحيح هو منهج من الغرب - منهجٌ حديثىٌّ، لكن مجموعة من المحققين والمشتغلين القدامى لم يكونوا يلتزمون به.
أما ما يخص مسألة مراتب النسخ، نجد سؤالا: ما هو معيار ترتيب النسخ؟ إن لترتيب النسخ معيارا منضبطًا وهو المعيار التاريخى، أما معيار الجودة فقد لا يكون منضبطًا؛ لاعتماده على المحقق نفسه وهل له القدرة على الحكم على جودة النسخة أم لا؟ أما معيار التاريخ فهو معيار منضبط، بحيث يمكن لكل محقق أن يرتب هذه النسخ بحسب التاريخ. وقد تكون هناك بعض النسخ المزورة؛ لكن هناك ما يسمى بقيود خوارج النص التى تحدث عنها المستشرقون أيضا، والتى يمكن أن تسهل فى مدى معرفة تاريخ النسخة من خلال تلك القيود (خوارج النص) إن كانت تامة أو وجود تملكات أو هبات أو إلى ذلك، أو قيود مختلفة تحدثنا عنها سابقا فى معهد المخطوطات العربية.
عندما رتب المحدثون النسخ، هناك مَن تحدث منهم عن (الأصل)، والأصل هنا مصطلح غير منضبط أو فضفاض؛ فالأصل الآن إذا تحدثنا عنه فى علم الكوديكولوجيا أو علم المخطوطات هو ما يعرف بالهولوجراف، وهو النسخة التى كتبت برمتها بخط المؤلف، وهناك نسخة الأوتوجراف التى عليها توقيع المؤلف، فهل الأصل هنا عندما يطلق عند المحدثين يطلق على النسخة التى كتبت بخط المؤلف أو النسخة (الشيخة) أو النسخة التى جرت على المؤلف أو التى سمعها المؤلف من شيخه؟ وسأذكر هذا الترتيب على عجل:
- هناك المرتبة الأولى هى النسخة الأصل.
- وهناك المرتبة الثانية هى أصل الشيخ.
- وهناك المرتبة الثالثة فرع مُقَابل.
- وهناك فرع كُمِّلَ كذلك على الفرع إلى غير ذلك.
فهنا كيف نتمكن من معرفة هذه المراتب؟ كما قلت لكم المعيار الأفضل فى نظرى - ولمشايخنا أن يصححوا لى - هو معيار التاريخ.
مسألة أخرى، إن المستشرقين كان لهم السبق فى ... النسخ وبيان نسبها من خلال رسم مخططات توضيحية فى ذلك، وكما أشرت فهناك مجموعة من المستشرقين الذين تحدثوا عن هذا.
ثم هناك معيار آخر وهو معيار النسخة الموثوق بها، وهى التى تحدث عنها المحدثون فى ... الواضح لبعض الطلبة الذين يعتمدون على نُسخ غير موثوق بها، وهذا المعيار - كما قلت لكم - غير منضبط على اعتبار قدرة الطالب على تحليل أو معرفة مدى وثاقة هذه النسخة.
أما فيما يتعلق بتوصيف النسخ، فإن المستشرقين هم أوائل مَن تميزوا بعملية توصيف النسخ، فإذا عدنا إلى جماعة من المحققين الكبار لوجدناهم يبخلون على القارئ بتقديم توصيف واضح للنسخ التى يعتمدون عليها، وهناك مجموعة من مستويات التوصيف، منها: مستويات التوصيف التحليلى، والتوصيف الكوديكولوجى، والتوصيف الفهرسى الذى يهتم فقط بذكر وبنقل البيانات العادية، لذلك وجدنا مجموعة من المستشرقين كان لهم قدم السبق فى توصيف هذه النسخ، والمثال على ذلك هو جيرار تروبو (Gérard Troupeau) فى مقدمته التى قدم بها لكتابه (تحقيق سيبويه) وهى الطبعة الأولى وأول طبعة لكتاب سيبويه، وهى طبعة فرنسية للمستشرق الفرنسى، فقد خصص مقدمة الكتاب باللغة الفرنسية فى توصيف النسخ توصيفا واضحا جليا على اعتبار أن نسخ سيبويه فيها بعض المشاكل، وفيها تفريق كبير، وهناك نسخة موجودة منه فى دار الكتب المصرية.
وتم العمل فى (كتاب سيبويه) من خلال تفريق الجزء الأول من النسخة المشرقية والجزء الثانى من النسخة المغربية، فشُيِّد الكتاب على أنه نسخة واحدة، والحاصل أن الكتاب يتكون من نسختين مختلفتين، كل جزء من بطاقةٍ مختلفة.
أما فيما يتعلق بنسخ النص وتحريره ومعالجته، فقد تحدث المحدثون فى هذا بتفصيل كبير فى كتب المصطلح كما تعلمون، فتحدثوا عن المفاضلة بين الخطوط التى ينبغى للمحقق أو للناسخ أن يكتب بها، وتحدثوا عن ضرورة ضبط الحروف المعجمة والمهملة وكراهة قطع الأسماء المكرمة، وكتابة الثناء فى اسم الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كيفية تخريج اللحق الثابت فى الحواشى، وهذه مهمة جدا للمحقق الذى لا يستطيع أو ليس لديه دربة أو خبرة فى قراءة المخطوطات، فيمكن أن يُخرج اللحق الموجود فى الحواشى، والمستشرقون كان لهم أيضا عناية بهذا الأمر.
ويبقى أمور متعلقة بالمقابلة وتحليل النص، وكذلك رموز النسخ التى كان للمحدثين قدم السبق فيها. وكذلك طرق التعامل مع الروايات التى تتحدث عن هذا الأمر، وقد كان موقف المحدثين هنا بأنه ينبغى أن نحافظ على الرواية، وأن نوَفِّق بين الروايات. وهناك فرق بين النسخة والرواية كما تعلمون، فإذا كانت نسخة من الرواية ونسخة أخرى من رواية أخرى، ينبغى أن نعامل كل نسخة أو كل رواية على حدة.
أختم حديثى بمسألة التعليق على النص والحواشى والدراسة، فللمستشرقين قدم السبق فيما يتعلق بدراسة النص، سواء كانت تحليلية أو كوديكولوجية أو كانت تفصيلية حول منهج المؤلف وطريقته فى معالجة النص، لذلك نجد الآن مجموعة من النصوص المحققة بها طائفة من المحققين الذين يستروحون كتابة دراسة فارغة (دراسة سريعة) وهم فى ذلك يصيبون أنفسهم بالغبن؛ لأن المحقق الذى تعامل مع النص عدة مرات وقرأه عدة قراءات كثيرة جدا - على الأقل 6 قراءات - قراءة نَسْخ وقراءة مقابلة، وقراءة تعليق وإضاءة إلى غير ذلك، ولم يستطع أن يقدم للقارئ دراسة متينة رزينة للنص وتاريخ التأليف فيه ومنهج المؤلف فيه ومصادره وموارده إلى غير ذلك فهو محقق مغبون.
أشكركم على حسن استماعكم، والسلام عليكم ورحمة الله.
العودة لصفحة المؤتمر