منهج تحقيق كتب الحديث الشريف قديمًا وحديثًا
أ.د. عبد المجيد محمود
أستاذ الشريعة الإسلامية والحديث الشريف بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة
العودة لصفحة المؤتمر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، خاتم النبيين ورحمة الله للعالمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فعنوان هذا البحث هو عنوان المحور الأول من محاور المؤتمر الذى أعدته جمعية المكنز فى مؤتمرها الأول لخدمة السنة النبوية بعنوان: (السنة النبوية بين الواقع والمأمول).
وقد قلبت النظر فى عنوان هذا المحور لأقف على المراد من الحد الفاصل بين القدم والحداثة فى قوله: (قديمًا وحديثًا)، هل يُراد بالقديم ما أصَّله السلف من أهل الحديث، ومقابله هو ما استحدثه المتأخرون من أهل عصرنا وطبقة مشايخنا ومشايخهم، أو أن المراد هو تقسيم طبقة المتأخرين إلى قديم وحديث ؟
وقد رجحت الاحتمال الأول لأن السلف من علمائنا قد أصلوا أصول هذا الفن وقعدوا قواعده، وخلفوا لنا ثروة هائلة من مسائله وتطبيقاته، لهذا بنيت خطة البحث بعد هذا التقديم على تمهيد، وثلاثة مباحث وخاتمة:
عنوان التمهيد (التحقيق والتثبت منهج إسلامى فى الأقوال والتصرفات)
وعنوان المبحث الأول : منهج السلف من أهل الحديث فى تحقيق كتب الحديث عند كتابتها وعند سماعها أو إسماعها. وفيه مطالب.
عنوان المبحث الثانى : من تطبيقات المنهج: مشارق الأنوار لعياض .
أما المبحث الثالث: فهو عن (منهج المعاصرين).
وأما الخاتمة ففيها نتائج البحث ومقترحاته.
التمهيد:
التحقيق والتثّبت منهج إسلامى فى الأقوال والتصرفات
فى كثير من نصوص القرآن والسنة ما يوجب على المسلمين والمسلمات أن يتثبتوا فى الأقوال والأفعال وأن يحتاطوا فى السماع والإسماع:
ففى الأقوال يجب التثبت من صدقها، سواء عند إنشائها – وهذا يقتضى إحساس المتكلم بمسئولية الكلمة – أو عند نقلها والإخبار بها مشافهة أو كتابة، وهذا يقتضى التثبت من الناقل وكونه أهلاً لقبول خبره.
فمن ذلك قوله تعالى {وَلَا تَقْفُ (1) مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [سورة الإسراء ، الآية 36] وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [سورة الحجرات ، الآية 6].
قال أبو السعود فى تفسيره: "فتبينوا" أى فتعرفوا وتفحصوا، وقرئ: "فتثبتوا " أى فتوقفوا إلى أن يتبين لكم الحال. وفسر القرطبى الفاسقَ هنا بالكاذب. أقول: هذه الآية الكريمة صريحة فى أن العجلة فى اتخاذ قرار سنده سماع خبر لم يُتأكد من صدق قائله، ربما تورث العَجلان ندامة لازمة.
ومن منهج التثبت اشتراط عدالة الشهود فى قوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِـلَّهِ}[سورة الطلاق ، الآية 2] ، وقوله سبحانه {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}[سورة البقرة ، الآية 282] .
وفى تداول الإشاعات وبث الأخبار التى لم يتثبت منها والتى تسىء إلى بعض أفراد المجتمع جاء قوله تعالى مشددا النكير على من يفعل ذلك {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}[سورة النور ، الآية 15]. قال أبو السعود: أى تقولون قولا مختصًّا بالأفواه من غير أن يكون له مصداق ومنشأ فى القلوب، لأنه ليس بتعبير عن علم به فى قلوبكم، كقوله تعالى {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ}[سورة آل عمران ، الآية 167] . ومن الحديث الشريف فى بيان خطورة مسئولية الكلمة: " إن العبد ليتكلم الكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقى لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقى لها بالا يهوى بها فى جهنم " (2).
وأما التثبت فى التصرفات فأكتفى بآية المداينة من سورة البقرة أنموذجًا لتوثيق الدين والعقود، سواء من حيث الأمر بكتابة الدين وتحديد أجله، أو من حيث الإشهاد على البيع، أو من حيث اشتراط العدالة فى الكاتب والشهود، أو من حيث توثيق الدين بالرهن فى بعض الحالات.
الباعث على منهج التثبت:
وهذا الباعث مصدره ما سبق من النصوص التى توجه المسلم إلى الترَوِّى وتربيه على التثبت والتحقق حتى يستقر هذا التوجيه فى أعماقه فيصير له خُلُقًا يلزمه وطبعًا لا يتكلفه .
وهو فى رأيى أمران: أحدهما دينى يستقر فى أعماق المسلم ويستنفر ضميره ويستثير قدراته طلبا للإحسان والإتقان فى كل أموره ابتغاء رضوان الله تعالى وإشفاقا من المحاسبة يوم يقوم الناس لرب العالمين حين سيسأل كل أحد عن كل ما صدر منه، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الحجر ، الآيتان 92، 93]
وإذا كان التثبت منهجًا للمسلم فى معاملاته بين الناس كان هذا التثبت أَوْلى وألزم عندما يكون لموضوع عمله قدسية، وآثارًا دينية ودينوية، وهو نقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يقع تحت طائلة العقاب الذى تُوعد به من يكذب على رسول الله، أو يكون أحد الكاذبين إن نقل خبرًا يعلم أنه كذب. قال محمد بن سيرين: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم ".
وقد تنبه المحدِّثون إلى خطورة عملهم من حيث إنه نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يقتضى مزيدًا من العناية فى النقل وفى مواصفات من يقبل نقله أى فى التثبت من الراوى والمروى، حتى تم لهم إبداع علم متشعب الأنواع يتناول قضية التوثيق من جميع جوانبها وشتى أطرافها.
ومن بين ثمرات جهود هؤلاء الأئمة فى علوم الحديث جملة من المسائل التى يمكن عدها أول منهج فى تحقيق الكتب وكيفية كتابتها. فحازوا قصب السبق فى هذا الفن، كما كان لهم الأولية فى تمحيص النصوص ونقدها، وهو ما يعرضه المبحث الآتى.
المبحث الأول:
منهج التحقيق عند السلف من أهل الحديث فى كتابة الكتب أو سماعها أو إسماعها:
فى كتب علوم الحديث نجد منهجًا متكاملاً لكتابة الحديث والتحقق من أن ما كتب ثابت صحيح بدأه أبو الحسن الرامهرمزى فى كتابه "المحدث الفاصل بين الراوى والواعى " ثم الخطيب البغدادى فى كتابيه (الكفاية) والجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع وللقاضى عياض فى ذلك كتابه فى علوم الحديث (الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع) يكاد يكون مقصورا على بيان المنهج نظريا فى تحقيق كتب الحديث. وميزة كتاب القاضى عياض أن نظرياته التى وضعها فى هذا الكتاب طبقها عمليًّا فى كتابه (مشارق الأنوار) ولهذا سوف يكون لنا عناية بهذين الكتابين مع غيرهما ممن تأخر عن عياض .
وقد وضع عياض قاعدة عامة فى التحقيق فى كتابه الإلماع فى باب تحقيق التقييد والضبط والسماع حين قال: (الذى ذهب إليه أهل التحقيق من مشايخ الحديث وأئمة الأصوليين والنظار أنه لا يجب أن يحدث المحدث إلا ما حفظه فى قلبه أو قيَّده فى كتابه وصانه فى خزانته حتى لا يدخله ريب ولا شك فى أنه كما سمعه... إذ الكل مجمعون على أنه لا يحدث إلا بما حقق، وإذا ارتاب فى شىء فقد حدث بما لا يحقق أنه من قول النبى صلى الله عليه وسلم ويخشى أن يكون مغيرًا فيدخل فى وعيد من حدث عنه بالكذب وصار حديثه بالظن والظن أكذب الحديث) (3)
من مفردات هذا المنهج:
1- تحسين الخط وتجويده:
روى الخطيب البغدادى بسنده إلى أمير المؤمنين على بن أبى طالب قال: (الخط علامة فكلما كان أبين كان أحسن)، وبسنده إلى حنبل بن إسحاق قال: رآنى أحمد بن حنبل وأنا أكتب خطًّا دقيقًا فقال: لا تفعل أحوج ما تكون إليه يخونك) أى أنه قد يمتد به العمر فيحتاج إلى مراجعة كتابه فيشق عليه الانتفاع به لضعف بصره ودقة الكتابة.
لكنهم التمسوا العذر لمن يكتب خطًّا دقيقًا إن كان فقيرًا أو كان مسافرًا فى طلب الحديث ويحمل كتبه معه.
ويكره أيضًا تعليق الخط ومشقه. والتعليق هو خلط الحروف التى ينبغى تفرقتها وإذهاب أسنان ما ينبغى إقامة أسنانه وطمس ما ينبغى إظهار بياضه.
والمشق – بفتح الميم وسكون الشين – هو خفة اليد وإرسالها وبعثرة الحروف. فيجتمع التعليق والمشق فى عدم إقامة الأسنان ويختص التعليق بخلط الحروف وضمها ويختص المشق ببعثرتها وإيضاحها بدون القانون المألوف. فالتعليق والمشق يكرهان فى كتب العلم كما تكره الهَذْرَمة فى قراءة هذه الكتب، والهذرمة هى القراءة السريعة. وينصح بتحقيق الخط فى كتب العلم والمراد بتحقيق الخط أن يميز كل حرف بصورته المميزة بحيث لا تشتبه العين الموصولة بالفاء أو القاف والمفصولة بالحاء أو الخاء.
وليس المراد بتحسين الخط أن يصرف زمنه فى تحسينه وملاحة نظمه فليست رداءة الخط قادحة إن كانت لا تفضى إلى الاشتباه. (4) ويحضرنى فى هذا المقام ما يكتب من العناوين والمقدمات فى بعض الرسائل بالخط الكوفى بواسطة الحاسوب، فتطغى عليه المبالغة فى الرسومات وفن الزينة حتى تخرج الحروف عن معناها فيصعب قراءتها.
2- ضبط الحديث بإعجامه وشكله:
المراد بالإعجام نقط الحروف المشتبهة، والمراد بالشكل ما يوضع على آخر الكلمات ليتبين موقعها من الإعراب.
قال الرامهرمزى "قال أصحابنا: أما النقط فلا بد منه لأنك لا تضبط الأسماء المشكلة إلا به" وكذلك قال عياض وهى صيغة تفيد الوجوب كما أفاد السخاوى عند شرحه بيت العراقى فى ألفيته:
وينبغى إعجام ما يُستعجمُ |
|
وشكل ما يُشكل لا ما يُفهمُ |
قال السخاوى: قوله "وينبغى" تفيد استحبابا مؤكدا بل عبارة ابن خلاد وعياض تقتضى الوجوب.(5) وقول العراقى "إعجام ما يستعجم" يعنى الذى يهمل نقط ما يحتاج إلى نقط لا يفهم عادة ما المراد به فإذا نقطت الحروف فقد أزال عُجْمته بأن يمَيزَ بين الخاء والحاء والدال والذال فى مثل كلمات الحذف والخذف، والبقيع والنقيع. وفى الأسماء يتميز أبو الحوراء – بالحاء المهملة والراء – من أبى الجوزاء بالجيم والزاى وما أشبه ذلك.
وأما الشكل فمنهم من يقصره على ما يُشكل وَيَلْتبس وهو اختيار ابن الصلاح حيث يقول (ثم لا ينبغى أن يُتَعَنَّى بتشكيل الواضح الذى لا يكاد يلتبس وقد أحسن من قال إنما يُشكَل ما يُشكِل) (6).
ومنهم من يرى تعميم الشكل فيما أشكل وما لا يشكل وهو اختيار القاضى عياض قال: (وهو الصواب لا سيما للمبتدئ وغير المتبحر فى العلم، وقد يقع النزاع بين الرواة فيها، وقد يختلف العلماء فى الحكم بسبب الاختلاف فى الإعراب مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " ذكاة الجنين ذكاة أمه " فالحنفية ترجح فتح "ذكاة" الثانية على مذهبها فى أنه يُذكى مثل ذكاة أمه. وغيرهم من المالكية والشافعية ترجح الرفع بإسقاطهم ذكاته. وكذلك قوله عليه السلام " لا نورث ما تركناه صدقة " الجماعة ترجح روايتها برفع "صدقة" على خبر المبتدأ على مذهبها فى أن الأنبياء لا تورث، وغيرهم من الإمامية يرجح الفتح على التميز لما تركوه صدقة دون غير ما ترك صدقة) (7)
وأولى الأشياء بالضبط أسماء الناس. ومن مظاهر عناية أهل الحديث بهذا الأمر ما روى عن عبد الله بن إدريس قال " لما حدثنى شعبة بحديث أبى الحوراء السعدى عن الحسن بن على كتبت أسفله [حور عين] لئلا أغلط"، يعنى فيقرأه أبا الجوزاء لشبهه به فى الخط. وأبو الحوراء هو ربيعة بن شيبان بصرى ثقة من الثالثة، وأبو الجوزاء هو أوس بن عبد الله الربَعى عن ابن عباس قال فى التقريب: بصرى يرسل كثيرًا ثقة من الثالثة.
وزيادة فى تحقيق الأسماء والحروف المشتبهة جرى عمل المشايخ وأهل الضبط على رسمها فى الحاشية بحروف مفرقة مبين فيها ما يهمل وما ينقط وما يضبط بالحركة.
ولم يقتصر اهتمامهم على نقط ما يحتاج إلى نقط بل أيضا اهتموا بالمهمل من الحروف ليجعل عليه علامة إهمال تحته وعبارة عياض: "وكما نأمره بنقط ما ينقط نأمره بتبيين المهمل بجعل علامة الإهمال تحته، فتَحْتَ الحاء تكتب حاء صغيرة وتحت العين تكتب عين صغيرة وكذلك الصاد والطاء والدال والراء".
ومنهم ما يقتصر على مثال النبرة - الهمزة – ومنهم من يقلب النقط فى المهملات فيجعله أسفل علامة لإهماله، ومن أهل المشرق من يُعلِّم على الحروف المهملة بخط صغير فوقه شبه نصف النبرة ".
3- الدارة بين كل حديثين :
وهى حلقة منفرجة أو مطبقة ذكرها السخاوى ضمن ما يتم به الضبط والمراد بها الفصل بين الحديثين حتى لا يدرج أول حديث فى آخِر آخَر، أو يدرج فى الحديث ما يكون فى آخره من شرح أو بيان، وأرى أنها من أوائل ما استعمل فى أدوات الترقيم فى الكتابة منذ وقت مبكر فقد روى ابن خلاد عن ابن أبى الزناد أن كتاب أبيه كان فيه دارة بين كل حديثين.
وأبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان القرشى ثقة فقيه من الخامسة مات سنة 130 هـ. وابنه عبد الرحمن صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد وكان فقيهًا من السابعة ت سنة 174 هـ. وقد نقل السخاوى استعمال الدارة عن أحمد بن حنبل وابن جرير الطبرى.
واستحب الخطيب أن تكون الدارة التى تفصل بين الحديثين لا نقط فيها إلى أن يعارض الكتاب أو يقابله فيضع فيها نقطة علامة على أنه تم عرضه ومقابلته.
* كيف تعالج أخطاء الكاتب أو الناسخ ؟
لا يسلم الناسخ من أخطاء حين النسخ، فقد يخطئ فى كلمات أو يزيد فى النص ما ليس منه أو يسقط كلمة من النص أو سطرا أو أكثر وغير ذلك مما يعتاد الخطأ فيه من الناسخ أو الكاتب، وقد خصص علماء الحديث أبوابا يبينون فيها علاج هذه الأخطاء ويصفون أحسن الطرق المتاحة لهم فى وقتها فمن الأبواب التى وضعت فى علاج هذه الأمور فى كتب علوم الحديث واهتم بها القاضى عياض، ما ذكره من عنوان (باب فى الضرب والحك والشق والمحو) فإذا أخطأ الناسخ فأدخل فى نسخه ما ليس من الأصل فقد يزيل الخطأ بشفرة أو سكين يحك بها الكلمة مرارًا حتى يزيلها أو يقشرها وهذه الطريقة فى محو الخطأ مرفوضة عند المحدثين وقد روى عياض عن ابن خلاد بسنده قال: (الحك تهمة) أى لما يورثه الحك من ظن التغيير والتبديل فى أصل الكتابة.
قال عياض: (وأجود الضرب ألا يطمس الحرف المضروب عليه بل يخط من فوقه خطًّا جيدًا بينًا يدل على إبطاله ويقرأ تحته ما خط عليه) ولهذا كان الشيوخ يكرهون حضور السكين فى مجلس السماع حتى لا يبشر شىء. (8)
أما المحو فهو إزالة الكلمة عندما يكون سطح ما كتب عليه صقيلا مثل لوح أو جلد أو ورق ثقيل فى حالة طراوة المكتوب ويكون المحو بإصبع أو بخرقة وروى عن سحنون أنه كان يلعق ما كان يريد محوه بلسانه.
الضرب:
طرق الضرب:
أ- أكثرهم يمد على ما كتب زائدا بخط ممدود مختلط بالكلمات المضروب عليها، وهو الذى يسمى الضرب والشق.
ب- ومنهم من لا يخلطه ويثبته فوق الكلمة أو الكلمات لكنه يعطف طرف الخط على أول ما يريد إبطاله وعلى آخره ليميزه من غيره.
ج- ومنهم من يستقبح هذا بل يحوق عليه بنصف دائرة فى أوله وفى آخره.
د – ومنهم من يكتب على أول المضروب عليه "لا " فى أوله و "إلى " فى آخره.
هـ - ومنهم من يكتب دائرة صغيرة فى أول الزيادة وفى آخرها ويسميها صفرا كما يسميها أهل الحساب ومعناها خلو موضعها عندهم عن عدد، كذلك تشعر هنا بخلو ما بينهما عن صحة.
المكرر من الكلمات والجمل:
قال عياض: (واختلف أهل الإتقان من أهل هذا الشأن فى الحرف إذا تكرر واحتاج إلى الضرب على أحدهما وإبطاله، أيهما أولى به ؟ فقال بعضهم: أَوْلاهما بالإبقاء الأول ؛ لأنه صحيح . ويبطل الثانى ؛ لأنه هو الخطأ المستغنى عنه. وقال آخرون : أَوْلاهما بالإبقاء أجودُهما صورة وأحسنهما كتابة. وأرى أنا إن كان الحرف تكرر فى أول سطر مرتين أن يُضرب على الثانى لئلا يُطمس أولُ السطر ويُسخَّم، وإن كان تكرر فى آخر سطر وأول الذى بعده فليضرب على الأول الذى فى آخر السطر، وإن كان جميعًا فى آخر سطر فليضرب على الأول أيضا ؛ لأن هذا كله من سلامة أوائل السطور. هذا عندى إذا تساوت الكلمات فى المنازل، فأما إن كانت مثل المضاف والمضاف إليه فتكرر أحدهما فينبغى ألا يفصل بينهما فى الخط، ويضرب بعد على المتكرر من ذلك كان أولا أو آخر وكذلك الصفة مع الموصوف) (9)
2- التخريج على الحواشى:
هذا عنوان ابن خلاد وفيه غموض، والمقصود منه إلحاق ما نسيه الناسخ فأسقطه من الأصل وعنوان القاضى عياض: " باب التخريج والإلحاق للنص " وقال السخاوى " باب تخريج الساقط " وما يلحق فى الحواشى يسمى فى اصطلاح المحدثين والكُتّاب " اللحق " بفتح اللام والحاء المهملة. وطريقته عند ابن خلاد أن يخرج من موضعه حتى يلحق به طرف الحرف المبتدأ من الكلمة الساقطة فى الحاشية ويكتب فى الطرف الثانى حرف واحد مما يتصل به فى الدفتر ليدل أن الكلام قد انتظم، وقال القاضى عياض: (أما تخريج الملحقات لما سقط من الأصول فأحسن وجوهها ما استمر عليه العمل عندنا من كتابة خط بموضع النقص صاعدا إلى السطر الذى فوقه ثم ينعطف إلى جهة التخريج فى الحاشية انعطافا يشير إليه، ثم يبدأ فى الحاشية باللحق مقابلا للخط المنعطف بين السطرين ويكون كتابها صاعدا إلى أعلى الورقة حتى ينتهى اللحق فى سطر هناك أو سطرين أو أكثر على مقداره ويكتب آخره "صح " وبعضهم يكتب "انتهى اللحق ") (10)
وقد انتقض عياض ما سبق ذكره عن ابن خلاد من أن يمر عطفة خط التخريج من موضع النقص داخل الكتاب حتى يلحقه بأول حرف من اللحق بالحاشية فقال: (هذا فيه بيان ولكنه تسخيم للكتاب وتسويد له) ووافقه ابن الصلاح فى مقدمته فى الفائدة الحادية عشرة من النوع الخامس والعشرين.
أما غير اللحق مما يكتب فى الحواشى من تنبيه أو تسفير أو اختلاف ضبط فلا يخرج إليه عند القاضى عياض لأن هذا قد يدخل اللبس فيحتسب لحقًا من الأصل لكن ربما جعل على الحرف المثبت بهذا التخريج كالضبة أو التصحيح ليدل عليه، وقد تعقب ابن الصلاح عياضًا فى منعه مد خط تخريج للفوائد من غير الأصل مع إجازته وضع ضبة أو تصحيح عليها فقال: (قلت: التخريج أولى وأدل وفى نفس هذا المخرج ما يمنع الإلباس ثم هذا التخريج يخالف التخريج لما هو من نفس الأصل فى أن خط ذلك التخريج يقع بين الكلمتين اللتين بينهما سقط الساقط، وخط هذا التخريج يقع على نفس الكلمة التى من أجلها خرج المخرج فى الحاشية) وقد صوّب السخاوى رأى ابن الصلاح، لأن كلا من الضبة والتصحيح اصطلح به لغير ذلك ووصف رأى ابن الصلاح بأنه حسن.
مدى حرية الناسخ أو القارئ فى إصلاح اللحن والخطإ:
اختلفت وجهات النظر فى إصلاح ما يراه الناسخ أو القارئ خطأ نحويًّا أو لغويًّا أو تصحيفًا فى الكلام، ولعل هذا الخلاف تابع للخلاف فى رواية الحديث بالمعنى أو التقيد باللفظ الذى وقع له فالرأى فى من أجاز الرواية بالمعنى أجاز إصلاح الخطإ واللحن وبخاصة عندما يكون فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه يجب الاحتياط فى أن هذه اللفظة التى اعتبرت خطأ قد يكون لها سند فى لهجات العرب المتعددة فإذا لم يكن لها سند فى ذلك جاز تصويبها وروايتها على الصواب وقد سئل أبو عبد الرحمن النسائى عن اللحن فى الحديث فقال: (إن كان شيئا تقوله العرب وإن كان فى غير لغة قريش فلا يغير ؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يكلم الناس بكلامهم، وإن كان ما لا يوجد فى كلام العرب فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلحن) وقد روى ابن خلاد عن الشعبى والأوزاعى قال: (لا بأس بإصلاح اللحن فى الحديث) وروى عن عفان قال: (قال لنا همام: ما سمعتم من حديث قتادة فأعربوه فإن قتادة كان لا يلحن، ثم قال لنا عفان: قال لنا حماد بن سلمة: من لحن فى حديثى فليس يحدث عنى) وعقب ابن خلاد على هذه الأخبار بقوله: (أما تغيير اللحن فوجوبه ظاهر لأن من اللحن ما يزيل المعنى ويغيره عن طريق حكمه وكثير من رواة الحديث لا يضبطون الإعراب ولا يحسنونه وربما حرفوا الكلام عن وجهه، وليس يلزم من أخذ عن هذه الطائفة أن يحكى ألفاظهم إذا عرف وجه الصواب إذا كان المراد من الحديث معلوما ظاهرا ولفظ العرب به معروفا فاشيا). ورأى ابن خلاد قريب من رأى النسائى وهو وجوب إصلاح اللحن بشرطين ألا يكون فى لهجة من لهجات العرب ولو فى غير لهجة قريش وأن يكون قاعدته فاشية معروفة عند العرب. والذين يقولون بإصلاح الخطإ يروونه عن شيخهم بعد الإصلاح حتى ولو كان شيخهم يلحن فيه. وهذا الرأى له أنصاره من العلماء إضافة إلى من تقدم. وهناك طائفة التزمت بلفظ الرواية التى وصلته وفيها اللحن، وقد رجح عياض هذا الرأى الأخير فقال: (الذى استمر عليه عمل أكثر الأشياخ نقل الرواية كما وصلت إليهم وسمعوها ولا يغيرونها من كتبهم حماية للباب، لكن أهل المعرفة ينبهون على خطئها عند السماع والقراءة وفى حواشى الكتب ويقرؤون ما فى الأصول على ما بلغهم). وقد ذكر السخاوى بعضًا من هؤلاء مثل رجاء بن حيوة والقاسم بن محمد وابن سيرين وذكر مثالاً أن زياد بن خيثمة عقب روايته حديث الشفاعة بلفظ " أترونها للمتقين ؟ لا ولكنها للمتلوثين الخطاؤون " أما إنها لحن ولكن هكذا حدثنا الذى حدثنا(11).
قال ابن الصلاح: (وهذا غلو فى مذهب اتباع اللفظ والمنع من الرواية بالمعنى) والذى نرجحه هو ما ذهب إليه عياض من الالتزام بالرواية كما هى لكن ينبه على الخطإ عن السماع والقراءة وفى حواشى الكتب لأن ذلك يسد الباب على من يتجرأ على الإصلاح دون روية أو بحث أو تأمل وقد ذكر القاضى عياض بعضًا من هؤلاء فقال: (وكان أجرأهم على هذا من المتأخرين القاضى أبو الوليد هشام بن أحمد الكنانى الوقشى فإنه لكثرة مطالعته وتفننه فى الأدب واللغة وأخبار الناس وأسماء الرجال وأنسابهم وثقوب فهمه وحدة ذهنه - جسر على الإصلاح كثيرا وربما نبه على وجه الصواب لكنه ربما وهم وغلط فى أشياء من ذلك.. وربما كان الذى أصلحه صوابًا وربما غلط فيه وأصلح الصواب بالخطإ وقد وقفنا له من ذلك فى الصحيحين والسير وغيرها على أشياء كثيرة، وكذلك لغيره ممن سلك هذا المسلك وحماية باب الإصلاح والتغيير أولى لئلا يجسر على ذلك من لا يحسن ويتسلط عليه من لا يعلم، وطريق الأشياخ أسلم مع التبيين) ثم ذكر طريقتين للتبيين إحداهما أن يروى اللفظ عند السماع كما وقع وينبه عليه ويذكر وجه صوابه إما من جهة العربية أو النقل أو وروده كذلك فى حديث آخر، والأخرى أن يقرأه على الصواب ثم يقول: وقع عند شيخنا أو فى روايتنا كذا أو من طريق فلان كذا وهو أولى لئلا يقول على النبى صلى الله عليه وسلم ما لم يقل.
ضط اختلاف الروايات والعمل فى ذلك:
قال القاضى عياض: (هذا ما يضطر إلى إتقانه ومعرفته وتمييزه وإلا سودت الصحف واختلطت الروايات. وأولى ذلك أن يكون الأم على رواية مختصة، ثم ما كانت من زيادة فى الأخرى ألحقت، أو من نقص أُعلِمَ عليها أو من خلاف خُرِّج فى الحواشى وأُعْلِمَ على ذلك كله بعلامة صاحبه من اسمه أو حرف منه للاختصار لا سيما مع كثرة الخلاف والعلامات وإن اقتصر على أن تكون الرواية الملحقة بالحُمْرة فقد عَمِل ذلك كثير من الأشياخ وأهل الضبط كأبى ذَرّ الهَرَوى وأبى الحسن القابسى وغيرهما، فما أثبت لهذه الرواية كتبه بالحمرة وما نقص منها مما ثبت للأخرى حوق بها عليه. وقد رأيت أبا محمد الأَصِيلى التزم ذلك فى كثير من كتابه فى صحيح البخارى الذى من خطه وما وقع فيه على أبى زيد المروزى وقيد فيه روايته ورواية أبى أحمد الجرجانى الذى عليها أصل كتابه فما سقط لأبى زيد ولم يروه عنه شق عليه بخطه أو وقع عليه وما سقط لهما معا شق عليه بخطين ليظهر سقوطه لهما وما اختلفا فيه أثبت عليه اسم صاحبه) ثم نبه القاضى عياض ألا يغفل الكاتب عن كثرة العلامات واختلاف الروايات أن يُقيِدَ ويوضح ذلك فى أول دفتره أو على ظهر كتابه أو جزئه بالرموز التى وضعها والتعريف بكل علامة لمن صاحبُها لئلا ينسى معنى تلك العلامات مع طول الزمن وكِبَر السن فتختلط عليه روايته ويُشكل عليه ضبطُه، ثم أشاد ببراعة أهل بلده وإتقانهم لهذه الأمور وخص منهم شيخه فقال: (والناس مختلفون فى إتقان هذا الباب اختلافا يتباين ولأهل الأندلس فيه يدُ ليست لغيرهم وكان إمام وقتنا فى بلادنا فى هذا الشأن الحافظُ أبو على الجيَاَّنى شيخُنا رحمه الله، كان من أتقن الناس بالكتب وأضبطهم لها وأقومهم لحروفها وأفرسهم ببيان مشكل أسانيدها ومتونها، وأعانه على ذلك ما كان عنده من الأدب وإتقانه ما احتاج إليه من ذلك على شيخه الشيخ أبى مروان بن سراج اللغوى آخر أئمة هذا الشأن وصحبته للحافظ أبى عمر بن عبد البر آخر أئمة الأندلس فى الحديث وأخذه عنه وتقييده عليه وكثرة مطالعته وناهيك من إتقانه من كتابه الذى ألفه على مشكل رجال الصحيحين)
شرح هذه الجملة السخاوى بقوله: (وَلْيَبْن أوّلا كتابه وقت الكتابة أو المقابلة على رواية خاصة ولا يجعله ملفقا من روايتين لما فيه من اللبس وبعد هذا يحسن العناية بغيرها أى بغير الرواية التى أصل كتابه عليها ويبين ما وقع التخالف فيه من زيادة أو نقص أو إبدال لفظ بلفظ أو حركة بإعراب أو نحوها). وقد ختم السخاوى باب اختلاف الروايات بجملة بـيَّن فيها أهمية العناية بهذا الأمر وأن إتقانه يؤدى إلى الامتياز والتفوق فقال: (واعلم أن العناية باختلاف الروايات مع الطرق من المهمات، وهو أحد الأسباب المقتضية لامتياز شرح البخارى لشيخنا على سائر الشروح ولكن فيه محظور للقاصرين حيث يضم حين قراءته أو كتابته رواية مع أخرى فيما لا يصح التلفيق فيه ولْيَكُنْ فيما تختلف فيه الروايات قائما بضبط ما يختلف فيه من كتابه جيد التمييز بينها كى لا تختلط وتشتبه فيفسد عليه أمرها (12).
المعارضة والمقابلة بعد النسخ:
روى ابن خلاد بسنده عن هشام بن عروة قال: (قال لى أبى: أكتبت ؟ قلت: نعم. قال: عارضتَ ؟ قلت: لا. قال: لم تكتب).
قال عياض: (وأما مقابلة النسخة بأصل السماع ومعارضتها به فمتعينة لا بد منها، ولا يحل للمسلم التقى الرواية ما لم يقابل بأصل شيخه أو نسخة تحقق ووثق بمقابلتها بالأصل وتكون مقابلته بذلك مع الثقة المأمون، فإذا جاء حرف مشكل نظر معه حتى يحقق ذلك) .
نلاحظ تشديد القاضى عياض على المقابلة وأنها شرط فى الرواية وهكذا قال الخطيب فى جامعه : (إن العرض شرط فى صحة الرواية) . ونقل الخطيب عن الخليل بن أحمد قال: (إذا نسخ الكتاب ثلاث مرات ولم يعارض تحول بالفارسية) . وروى الخطيب فى الكفاية عن الأخفش: (إذا نسخ الكتاب ولم يعارض ثم نسخ ولم يعارض المنسوخَ خرج أعجميًّا) وقد اشترط بعضهم فى المقابلة ألا يقابل إلا مع نفسه وهو تشدد غير مقبول ولا مأمون.
قال ابن الصلاح: إنه مذهب متروك وهو من مذاهب التشدد المرفوضة فى أعصارنا. قال ابن الصلاح: (ثم إنه ينبغى أن يراعى فى كتاب شيخه بالنسبة إلى مَنْ فوقه، مثل ما ذكرنا أنه يراعيه من كتابه ولا يكون منه كطائفة من الطلبة إذا رأوا سماع شيخ لكتاب قرءوه عليه من أى نسخة اتفقت) (13)
الثناء على الله إذا كتب لفظ الجلالة والصلاة والسلام على رسوله إذا كتب النبى:
الأمر الأخير فى هذا المبحث هو الثناء على الله إذا كتب اسم الجلالة مثل (تبارك وتعالى) و(عز وجل) والصلاة والسلام على رسول الله عند ذكره، قال ابن الصلاح: (ينبغى أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله عند ذكره ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره).
والصلاة والسلام على النبى يتقرب بها إلى الله جميع المسلمين ويبتغون من ورائها توقير الرسول وتعظيمه والثواب المترتب على الصلاة عليه إذ أُمرنا بالصلاة عليه فى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[سورة الأحزاب ، الآية 56] . لكن البحث هنا يتعرض لأمرين:
الأول: ان ابن الصلاح والنووى ومن تبعهما كالعراقى والسخاوى والسيوطى ذكروا أنه ينبغى أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم حتى ولو لم يكن مثبتًا فى الأصل الذى ينسخ منه، قالوا: لأنه دعاء يثبته لا كلام يرويه، فلذلك لا يتقيد فيه بالرواية ولا يقتصر فيه على الأصل، وهكذا الأمر فى الثناء على الله عند ذكر اسمه (14). وزاد النووى فى مختصره الترضى والترحم على الصحابة والعلماء وسائر الأخيار (15).
أما الأمر الثانى: فإنهم حكموا بالكراهة على من اختصر على الصلاة أو اقتصر على السلام دون الصلاة أو من اختصرهما برمز مثل (ص) أو (صلعم) قال ابن الصلاح: (ثم ليتجنب فى إثباتها نقصين أحدهما أن يكتبها منقوصة صورة رامزًا إليها بحرفين أو نحو ذلك، والثانى أن يكتبها منقوصة معنى لئلَّا يكتب "وسلم " وإن وجد ذلك فى خط بعض المتقدمين.
وكلا الأمرين اللذين ذكرهما ابن الصلاح لا يُسَلَّم له فليس فى النصوص ما يلزم بذلك ولا من أفعال السلف مَنْ روى عنه أنه التزم بذلك. والاقتصار على صلى الله عليه دون السلام أو قوله عليه السلام دون الصلاة، موجود عند المتقدمين كما أقر ابن الصلاح فهو موجود عند الإمام أحمد فى مسنده فقد ذكر الخطيب فى جامعه : (رأيت بخط أبى عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل فى عدة أحاديث اسم النبى ولم يكتب الصلاة عليه وبلغنى أنه كان يصلى على النبى صلى الله عليه وسلم نطقًا لا خطًا. وقد خالفه غيره من الأئمة المتقدمين، لكن كثير من الأئمة المتقدمين لم يكونوا يلتزمون بذلك منهم الإمام الشافعى ومنهم أحمد الذى ذكره وحكايته فى أنه كان يصلى نطقا لا خطا هى بلاغ ليس له إسناد، ثم إن التحقيق والأمانة فيه تقتضى ألا يزاد فيما ينقله المحقق من الأصل شىء لأنه تقويل لما لم يقله المصنف، وهى مسألة تتعلق بحكم الصلاة المتكررة عند كل إمام من الأئمة وقد ذكر ابن حجر عشرة مذاهب فى هذه القضية تتسع لطرفين متباعدين ما بين وجوب تكرارها فى كل موضع يذكر فيه اسم النبى وبين الاكتفاء بمرة واحدة فى العمر خارج الصلاة وتكرارها فى كل موضع بالصورة التى نقلت عن ابن الصلاح ومن تبعه يؤدى إلى أن يفهم القارئ أن هذا مذهب المصنف مع أنه مذهب من ينقل عن المصنف لا مذهب المصنف (16) واعتذر ابن الصلاح عن الإمام أحمد بأنه لم يكتبها لالتزامه بأصل شيخه تورعا من أن يزيد فى الرواية ما ليس منها لكن مع نطقه بالصلاة والسلام إذ قرأ أو كتب، وهذا الاعتذار استنباط لا سند له وفى الوقت نفسه يؤيد أن مشايخ الإمام أحمد لم يكتبوها فى أصولهم ولذلك لم يرتض ابن دقيق العيد هذا الرأى وقال: (وإذا فقدت الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم من الرواية فلا ينبغى أن يتركها لفظا. وهل له أن يكتبها ؟ أجازه بعضهم ولم يتوقف فى إثباته على كونه مرويًّا. والذى نميل إليه أن تتبع الأصول والروايات، فإن العمدة فى هذا الباب هو أن يكون الإخبار مطابقا لما فى الواقع فإذا دل هذا اللفظ على أن الرواية هكذا ولم يكن الأمر كذلك لم تكن الرواية مطابقة لما فى الواقع) (17) وعليه مشى الحافظ أبو الحسين اليونينى فى نسخته بالصحيح التى جمع فيه بين الروايات التى وقعت له حيث يشير بالرمز إليها إثباتًا ونفيًا (18).
وأما الاكتفاء بـ (صلى الله عليه) أو (عليه السلام) فنجدها عند كثير من العلماء وقد رأيتها فى خط العينى فى كتابه (نخب الأفكار فى شرح معانى الآثار) الذى شرح به معانى الآثار للطحاوى ؛ لأنهم لا يرون كراهة فى إفراد إحداهما، فإكمال الصيغة فيه إخفاء لما يراه الكاتب فى حكم إفراد الصلاة أو السلام. وقد حمدت لجمعية المكنز أنها التزمت بذكر ما تجده فى الأصول دون زيادة عليه، وعلى كل فينبغى التنبيه فى مقدمة التحقيق إلى منهج المحقق فى هذه المسألة.
المبحث الثانى:
من تطبيقات المنهج (كتاب مشارق الأنوار للقاضى عياض)
بعد أن ذكرنا طرفًا من الجهود المبكرة للمحدثين فى التحقيق والتثبت فى تدوين ما يسمعونه أو ينسخونه والتنبيه إلى تجنب الأسباب المفضية إلى التصحيف والتحريف فى القراءة أو الكتابة وإلى التنبه إلى ضرورة المقابلة التى يكتشف بها بعض الأخطاء أو السقط فى كتابة النصوص كما ذكروا منهجهم فى كيفية إصلاح الأخطاء سواء تلك التى مردها إلى النسخ أو مردها إلى التأليف، إلى غير ذلك مما فيه صيانة للنصوص من أن يتطرق إليها ما يخرجها عن مسارها أو يمنعها من الإبانة عن مقاصدها، وقد كان للقاضى عياض نصيب وافر من هذه المنهجية فى تحقيق كتب الحديث سواء من ناحية التأصيل النظرى – وفيها ألف كتابه (الإلماع) وموضوعه التثبت فى السماع وتقييد المسموع، أو التثبت فى طرق تحمل المرويات وتدوينها – أو من ناحية التطبيق العملى وممارسة هذا الفن عمليا بتأليفه الفذ فى كتابه (مشارق الأنوار) الذى طبق فيه عمليا ما سبق أن أصَّله نظريًّا، وذلك فى تحقيقه ما سماه أمهات كتب الحديث.
وفيما يأتى تعريف بهذا الكتاب وسبب تأليفه ومنهجه فيه.
سبب تأليفه:
ذكر القاضى عياض أن تساهلا شديدا طرأ على الحياة العلمية فى رواية الكتب التى دونت فيها السنة بعد أن اطمأن الناس إلى توثيق روايتها ونسبتها إلى مؤلفيها، وشاعت فى أقطار الإسلام فتساهل الناس فى روايتها بالأسانيد التى قد لا يكون بعض رواتها فى مستوى قبول الأخبار، لأن هؤلاء ليس لهم أثر فى ثبوت صحة هذه الكتب ونسبتها إلى مؤلفيها إنما أثرهم فى روايتها فقط فصارت تروى بالإجازة العامة، وقد يحضر الطفل مع أبيه فى مجلس الشيوخ فيكتب له حضور أو سماع، ثم قد يطول عمره فيقصده طلبة الحديث لإسناده العالى ويقرأ عليه الكتاب الذى ثبت فيه حضوره أو سماعه، وقد لا يعرف أمثال هؤلاء الشيوخ ما فى كتبهم، فهم لا يُصوّبون خطأ ولا يصححون تصحيفا، فكثرت الأخطاء فى الروايات عند قراءتها أو نسخها وشاع التحريف والتصحيف، ولما رأى القاضى عياض ذلك ورأى أن الكتب كثيرة لا يستطيع أن يلم بها ويصححها جميعها اكتفى فى تحقيق روايات الأصول منها وهى التى سماها (بالأمهات الثلاث الجامعة لصحيح الآثار التى أجمع على تقديمها فى الأعصار وقَبِلها العلماء فى سائر الأمصار) وهى الموطأ وصحيح البخارى وصحيح المسلم لأنها كما قال: (أصول كل أصل ومنتهى كل عمل فى هذا الباب).
ثم تعرض عياض للدراسات السابقة فى الموضوع فقال:
(ولم يُؤلَّف فى هذا الشأن كتاب مفرد تقلَّدَ عُهدة ما ذكرناه على أحد هذه الكتب أو غيرها إلا ما صنعه الإمام أبو الحسن على بن عمر الدارقطنى فى (تصحيف المحدثين) وأكثره مما ليس فى هذه الكتب، وما صنعه الإمام أبو سليمان الخطابى فى جزء لطيف، وإلا نُكَتٌ مفترقة وقعت أثناء شروحها لغير واحد لو جمعت لم تشفِ غليلاً ولم تبلغ من البغية إلا قليلاً، وإلا ما جمع الشيخ الحافظ أبو على الحسن بن محمد الغسانى شيخنا رحمه الله فى كتابه المسمى بـ (تقييد المهمل) فإنها تقصى فيه أكثر ما اشتمل عليه الصحيحان وقيده أحسن تقييد وبينه غاية البيان وجوده نهاية التجويد، لكن اقتصر على ما يتعلق بالأسماء والكنى والأنساب وألقاب الرجال دون ما فى المتون من تغيير وتصحيف وإشكال، وإن كان قد شذ عليه من الكتابين أسماء واستدرجت عليه فى ما ذكر أشياء، فالإحاطة بيد من يعلم ما فى الأرض والسماء).
منهجه فى ترتيب كتابه:
1- ترتيب أول الكلمات على حروف المعجم، وكذلك ترتيب ثانى الكلمة وثالثها على ترتيب حروف المعجم عند أهل المغرب.
وترتيب الحروف عند أهل المغرب كما يأتى:
أ – ب - ت – ث – ج – ح – خ – د - ذ – ر – ز – ط – ظ – ك – ل – م – ن – ص – ض – ع – غ – ف – ق – س – ش – هـ - و – ى.
وزاد فيها الأستاذ عبد السلام هارون (لا) قبل الياء (ص28).
2- يبدأ فى كل حرف بالألفاظ الواقعة فى المتون المطابقة لبابه على الترتيب فيتولى إتقان ضبطها بحيث لا يلحقها تصحيف يظلمها ولا يبقى بها إهمال يبهمها.
3- التنبيه على الحرف الذى اختلفت فيه الروايات والترجيح بينها. ومقصوده بالحرف هنا أعم من الكلمة أو أحد أجزائها.
والمرجحات عنده ما يأتى:
أ – وجود اللفظة فى حديث آخر رافع للاختلاف
ب- موافقة اللفظة لما هو المعروف فى كلام العرب أو الأشهر
ج- أن يكون ما يختاره هو الأليق بمساق الكلام
د – أن ينص أحد الأئمة السابقين على المخطئ والمصحف فيه
هـ - إدراك الصواب بتحقيق نظرة وكثرة بحثه على مناهج هؤلاء الأئمة
4 – يعقد فى آخر كل حرف فصلا فيه أسماء الأماكن والبلاد مما يشكل تقييده ويقع فيه تصحيف وكذلك فى كل حرف يتعرض لمشكل الأسماء والألقاب ومبهم الكنى والأنساب فى هذا الفصل يذكر فى آخر كل فصل من فصول كل حرف ما جاء فيه من تصحيف فيها وينبه فيه على الصواب.
5 – شرح الألفاظ الغريبة بما يزيل غربتها ويقرب معناها دون اتساع فى ذلك، لأن موضوع الكتاب ليس شرح الغريب ولأنه فى شرح كتاب صحيح مسلم توسع بما فيه الكفاية.
6- ألحق ثلاثة أبواب فى آخر الكتاب شذت عن أبواب الحروف لكونها جمل كلمات يضطر القارئ إلى معرفة ترتيبها وصحة تهذيبها إما لما دخلها من التغير أو الإبهام أو التقديم والتأخير أو لا يفهم المراد منها إلا بعد تقديم إعراب كلماتها أو سقوط بعض ألفاظها أو تركه على سبيل الاختصار:
الباب الأول: فى الجمل التى وقع فيها تصحيف (2/308)
الباب الثانى: فى تقويم ضبط جمل فى المتون والأسانيد وضبط إعرابها وتحقيق هجاء كتابها وشكل كلماتها وتبين التقديم والتأخير اللاحق لها، ليستبين وجه صوابها وينفتح للأذهان مغلق أبوابها.
الباب الثالث: فى إلحاق ألفاظ سقطت فى أحاديث هذه الأمهات أو من بعض الروايات أو بُتِرتْ اختصارا أو اقتصارا على التعريف بطريق الحديث لأهل العلم به لا يفمهم مراد الحديث إلا بإلحاقها ولا يستقل الكلام إلا باستدراكها.
مكانة كتابه وحاجة عامة المثقفين إليه:
قال القاضى عياض ما معناه: إن هذه الأغراض إذا صحت لن يكون هناك إشكال فى هذه الأصول المذكورة سابقا وهى الموطأ والصحيحان، وأن طالب المعرفة سوف يُغنيه ما يجده فى هذا الكتاب عن الرحلة إلى المتقنين من الشيوخ، وأن هذا الكتاب لا تقتصر إفادته على أهل الحديث أو المبتدئين منهم، لكن يحتاج إليه الشيخ الراوى والحافظ والواعى والمبتدئ والمنتهى ويضطر إليه طالب التفقه والاجتهاد، ويحتج به الأديب كما يعتمد عليه المناظر، وأن من يطلع عليه من أهل المعرفة والإنصاف سوفَ يَقْدُره قدره ، ويوفيه حقه، لأنه لم يألُ فيه جهدًا. ذكر كل ذلك فى نهاية مقدمته بأسلوب أدبى مرصع بألوان من الاستعارات والسجع والجناس وغيرها من فنون البديع والبلاغة ثم ختمها بتسمية كتابه فقال: (.. وأودعته غرائب الأوداع والأسرار وأطلعته شمسا يشرق شعاعها فى سائر الأقطار، وحررته تحريرا تحار فيه العقول والأفكار، وقربته تقريبا تتقلب فيه القلوب والأبصار، وسميته بمشارق الأنوار على صحاح الآثار) (ص 7 من المقدمة).
سند القاضى عياض إلى الموطأ وصحيحى البخارى ومسلم
قال القاضى عياض: (ذكر أسانيدى فى هذه الأصول ورأيت ذكرها ليعلم مخرج الرواية التى أنص عليها عند الاختلاف أو أضيفها إلى روايها ليكون الواقف عليها على أَثَرةٍ من علمها).
فأما بالنسبة إلى الموطإ فنبه إلى أنه اعتمد فقط على رواية يحيى بن يحيى الأندلسى الليثى لأنها الشائعة فى بلادهم فرواه من طرق كثيرة عن مشايخه إلى يحيى بن يحيى عن مالك من طريقين: عن عبيد الله بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى عن مالك، وعن محمد بن وضاح عن يحيى بن يحيى عن مالك.
وأما صحيح البخارى فرواه من طريقين لم يصل إلى الأندلس غيرهما هما: طريق أبى عبد الله الفِرَبْرى محمد بن يوسف وأكثر الروايات من طريقه، والثانى طريق إبراهيم بن مَعْقِل النسفى عن البخارى.
فأما رواية الفربرى فرواها من طرق كثيرة منها طريق أبى ذر عبد بن أحمد الهَرَوِى، وطريق أبى محمد عبد الله بن إبراهيم الأَصِيلى، وطريق على بن خلف القابسى، وطريق كريمة بنت محمد المروزية وطريق سعيد بن عثمان بن السكن وطريق إسماعيل بن محمد الكاشانى وغيرهم ثم ذكر طرقه إليه:
1- رواية أبى إسحاق إبراهيم بن سفيان المروزى
2- رواية أبى محمد أحمد بن على القلانسى. ثم ذكر بعض طرقه إليهما
وفى نهاية الأسانيد قال: (ولنا ولشيوخنا أسانيد أُخر فى هذين الطريقين وفى طرق البخارى اختصرناها).
نماذج من المشارق:
من نماذج ترتيبه فى مواد الكلمات وشرحها ما جاء فى فصل الهمزة مع الباء قوله (أبد) قوله عليه السلام: " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش " معناه نوافر وشوارد، يقال أَبَدَتْ تأبِد وتأبَد إذا تَوَحَّشَتْ (وقوله) "بل لِأَبِدِ أَبَد" ويروى لِأَبَدِ الأبَد أى آخر الدهر، والأَبَد الدهْر.
وهكذا صنيعه فى (أ ب ر) و (أ ب ز) و (أ ب ل ) و (أ ب ن) و (أ ب و) وأخيرًا (أ ب ى)
وبعد أن انتهى من هذه المادة ذكر (فصل الاختلاف والوهن فى هذا الحرف). ومن نماذج هذا الفصل قوله فى حديث بنت أبى سلمة: (إنها ابنة أخى من الرضاعة، أرضعتنى وأباها ثويبة) كذا روايتنا عن جميعهم بالباء الموحدة ورواه بعض أصحابِ أبى ذر من الأندلسيين (وإياها) باثنتين تحتها، وهو تصحيف قبيح، وقوله أول الحديث " إنها ابنة أخى " تدل على صحة رواية الكافَّة، وقد جاء أشد بيان للبخارى (أرضعتنى وأبا سلمة ثويبة). وفى كتاب مسلم من رواية محمد بن رمح فقال: (أرضعتنى وأباها أبا سلمة ثويبة).
ومن نماذج الباب الأول الذى عقده فى كتابه فى الجمل التى وقع فيها التصحيف أو طمس معناه التغيير والتلفيف.
منها ما وقع فى الموطإ فى الصلاة فى السفر من رواية يحيى قوله: (رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يصلى على حمار وهو متوجه إلى خيبر) كذا فى الموطإ من طريق عمرو بن يحيى المازنى. قال النسائى: (لم يتابع عمرو بن يحيى على قوله يصلى على حمار وإنما يقولون على راحلته).
وفى كتاب الصيد لحديث أبى ثعلبة: (أكل كل ذى ناب من السباع حرام) كذا رواه يحيى ولم يتابعه أحد على هذا اللفظ فى الحديث من أصحاب الموطإ، كلهم يقولون فيه: (نهى عن كل ذى ناب من السباع) وكذا وضحه ابن وضاح، وإنما اللفظ الأول فى حديث أبى هريرة الذى بعده.
ومما وقع من الوهم فى رواية البخارى فى كتاب العلم باب الغضب فى الموعظة: (لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان) كذا وقع فى الأمهات وفيه إشكال وقد رواه الفريابى: (إنى لأتأخر عن الصلاة فى الفجر مما يطول بنا فلان) وهذا أظهر. ولعل الأول مغير منه أو من معناه، ولعله (لأكاد أترك الصلاة) فزيدت بعده ألف وفصلت التاء من الراء فجعلت دالا والله أعلم.
ومن أمثلة ما جاء فى كتاب صحيح مسلم قوله فى خطبة كتابه (وضُعف) يحيى بن موسى بن دينار) كذا جاء فى جميع النسخ وفيه تغيير استمر من النَقَلَة عن مسلم وصوابه (وضعف يحيى موسى بن دينار) ويحيى هذا هو ابن سعيد القطان ضعف حكيم بن جبير وعبد الأعلى ثم قال: (وضعف يحيى موسى بن دينار ثم قال وضعف موسى بن الدهقان وعيسى بن أبى عيسى) كذا ذكره مسلم من تضعيف يحيى، وكذا نقل العقيلى كلام يحيى فى موسى).
الخطأ فى آيات القرآن
ومن نماذج ما جاء فى هذا الباب وهو فى غاية الأهمية (فصل فى ما جاء من الوهم فى هذه الأصول فى حرف من القرآن) واستمرت الرواية على خلاف التلاوة بها، وبعضها استقرت كذلك فى الأصول إما الوهم من المؤلف أو ممن تقدم من الرواة فلم يُرِد من جاء بعده تغيير ذلك وإصلاحه وإبقاء الرواية على ما جاءت عليه على مذهب من كف عن الإصلاح فى كل شىء.. وإن كان غيرهم قد ذهب إلى إصلاح اللحن والخطإ البين.
وقد ذكر فى هذا الفصل أمثلة كثيرة ينتج من اعتماد المؤلفين على حفظهم دون مراجعة الآيات فى المصحف وهذا خطأ يقع فيه الكثيرون.
وقد ذكر نماذج له القاضى عياض فى كتب الحديث، وذكر أستاذنا الأستاذ عبد السلام هارون رحمه الله نماذج كثيرة له فى كتب الأدب واللغة فى كتابه (تحقيق النصوص ص48-50).
وقد وجدت نموذجا لهذا فى فتح البارى لابن حجر فى البخارى فى الباب الخامس والعشرين من كتاب الاعتصام لم يقف عليه القاضى عياض ولا غيره من الشراح فى حديث: « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم» الآية. فهذه الآية كلمة " إليكم " ليست فى رواية البخارى لهذا الحديث فى الباب الحادى عشر من تفسير سورة البقرة فى كتاب التفسير لا فى ترجمة الباب ولا فى الحديث ونصه هناك «ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا» الآية. قال ابن حجر هناك: (زاد فى الاعتصام وما أنزل إليكم)، وزاد الإسماعيلى عن الحسن بن سفيان عن محمد بن المثنى عن عثمان بن عمر بهذا الإسناد «وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» .أقول إن زيادة (إليكم) فى كتاب الاعتصام وزيادة الإسماعيلى خطأ محض لم أجد من نبه إليه من شراح البخارى، إذ إن هذه الزيادة تنقل الآية من سورة البقرة " آية 136 " ولا يستطاع عزوها إلى سورة العنكبوت " آية 46 " لأنها مركبة من الآيتين ونص آية البقرة { قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ }[سورة البقرة ، الآية 136] الآية. ونص آية العنكبوت { وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }[سورة العنكبوت ، الآية 46] والذى اقتصر عليه البخارى فى ترجمته فى كتاب التفسير وفى نص الحديث هو الصواب.
أما الباب الثانى فى آخر الكتاب فجعله عياض فى ألفاظ وجمل فى هذه الأصول يحتاج إلى تعريف صوابها وتقويم إعرابها وتفهيم المؤخر من المقدم من ألفاظها وبيان إضمارات مشكلة وعلى ما يعود المراد بها ومعظم هذا الباب فى توجيه الإعرابات وبيان ما يعود عليه الضمير فى الجمل التى يشتبه فيها عودة الضمير. ومما ذكره من الفوائد فى هذه الفصول قوله: (عبد الله بن أبى ابن سلول) يجب أن يكتب ابن سلول بالألف ويجرى إعرابه على إعراب (عبد الله) كيف جاء لأنه بدل من عبد الله لا نعت لأبى لأنها أم عبد الله على قول أكثرهم وكذا قولنا: (حدثنا محمد بن يحيى بن أبى عمر) وأبو عمر كنية أبيه لا جده وكذلك (حدثنا منصور بن عبد الرحمن بن أبى شيبة) ابن رفع تبع لمنصور وبدل منه لأنه شيبة جده لأمه وليس لأبى أبيه فيتبعه فى إعرابه وأمه حفصة بنت شيبة الحجبى.
وفيه فصل فى التقديم والتأخير من حديث الخضر (فسارا بقية ليلتهما ويومهما حتى أصبح) كذا جاء فى الصحيحين فى غير حديث وفيه تقديم وتأخير بيِّن صوابه (بقية يومهما وليلتهما حتى أصبح) بدليل سياق الحديث وبدليل قوله حتى أصبح.
وأما الباب الثالث فى آخر الكتاب فهو فى إلحاق ما بُتر من الحديث أو بُيِّضَ للشك فيه أو لعلة أو نص منه وهما مما لا يتم الكلام إلا به ولا يستقل إلا بإلحاقه وما وقع من زيادة أو نقص مما اختص بالمتون فمن ذلك فى الموطإ فى باب تيمم الجنب قوله: (عن الرجل يتيمم ثم يدرك الماء) قال سعيد عليه الغسل كذا عند شيوخنا فى رواية يحيى وعند غيره فى بعض الروايات عن عبد الله عن يحيى عن (الرجل الجنب) وهو الصواب. وفى حديث ابن عباس (فى المرور بين يدى المصلى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بالناس فى منى) كذا عند يحبى وغيره وعند أبى مصعب زيادة (إلى غير سترة) وبه كملت فائدة الحديث وفقهه.
المبحث الثالث:
منهج التحقيق عند المتأخرين
مما سبق فى المبحثين الأول والثانى نرى أن السلف أبدعوا منهجا مفصلا لتحقيق كتب الحديث وحمايتها من التحريف والتصحيف وتعقب ما يمكن أن يلحقها من زيادة أو نقص أو أى خلل كان.
ولم يطرأ فى العصور المتأخرة حتى يومنا هذا ما يمكن أن يعد إضافة إلى أصول هذا المنهج غير أن المادة العلمية القائمة على الاجتهاد والابتكار فى بلدان العالم الإسلامى عندما توقف فترة طويلة انتقل التفوق إلى غيرهم، فصار للمستشرقين دور عظيم فى التحقيق ساعد عليه اختراع المطابع، كما استحدثوا أمورًا فى التحقيق أعطت له رونقا وقبولا للنشر. هذه الأمور سماها شيخ المحقيقين الأستاذ عبد السلام محمد هارون رحمه الله المكملات الحديثة جاء ذلك فى قوله: "ولقد كان لجمهرة العلماء المستشرقين فضل عظيم فى تأسيس المدرسة الطباعية الأولى للتحقيق والنشر" وقلت (الطباعية) لأنى أعلم أن تحقيق النصوص ليس فنا غربيا، وإنما هو عربى أصيل قديم وضعت أصوله أسلافنا العرب منذ زاولوا العلم وروايته من الحديث والشعر والأدب وسائر فنون الثقافة وكان نشاطهم فى ذلك ظاهرا ملء السمع والبصر. وقد أدى إلينا المستشرقون هذه الأمانة الفنية نقلا عن العرب فظهر لهم روائع النشر أمثال (النقائض وديوان الأعشى وكامل المبرد وشرح المفضليات) ثم كان أكبر وسيط عربى فى نقل هذا الفن عن المستشرقين هو المرحوم العلامة أحمد زكى باشا الذى لم يقتصر جهده على أن ينقل هذا الفن فحسب بل أشاع معه كذلك استعمال علامات الترقيم الحديثة التى كان لها أثر بعيد فى توضيح النصوص وتيسير قراءتها وضبط مدلولاتها وأشاع معها كذلك ضروبا من المكملات الحديثة للنشر العلمى . ثم ذكر الأستاذ أربعة من هذه المكملات هى:
1- العناية بتقديم النص ووصف المخطوطات. ويقتضى ذلك التعريف بالمؤلف وبعصره، وبدراسة فاحصة لمخطوطات الكتاب.
2- العناية بالإخراج الطباعى ومعالجة تجارب الطبع معالجة دقيقة.
3- صنع الفهارس الحديثة.
4- الاستدراكات والتذييلات.
خاتمة:
من أهم النتائج فى هذا البحث أن جهود علماء الحديث أسهموا فى بناء منهج متكامل لتحقيق النصوص لم يضف إليه غيرهم إلا ما اقتضاه التطور فى الطباعة والنشر من إضافات تناسب عصرها.
كان من أبرز هؤلاء العلماء من السلف القاضى عياض الذى كتب فى تحقيق الكتب نظريا وطبقه عمليا فى كتابه مشارق الأنوار الذى يحتاج إلى دراسة خاصة وطبعة تليق به يشرف عليها متخصصون فى اللغة والحديث.
كان عمل عياض فى اختلاف الروايات التى تساوى الآن الفروق بين النسخ كان فيه ما يفيد أن جمع كل الروايات أو النسخ المتاحة ليس شرطًا إنما يكتفى بالجمع بين روايات المتقنين ولا يلتفت إلى روايات غيرهم، فالعبرة ليست بعدد النسخ أو الروايات وإنما بقيمتها العلمية، كما أن شرح غريب ما يُحقق وضبطه مما يلزم المحقق، على أن لا يتوسع فى ذلك وإلا صار استطرادًا غير مرغوب فيه .
المختار فى إصلاح الخطإ لا يكون بتغيير ما أثبته المؤلف بل ينبغى المحافظة على عبارات المؤلف فيذكر الخطأ كما هو ثم ينبه إلى الصواب بذكره فى الحاشية فيجمع حينئذ بين واقع المؤلف وصواب ما غير فيه. والله أعلم.
العودة لصفحة المؤتمر
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) قوله: لا تقف أى لا تقل، نقله البخارى عن ابن عباس، وفسر قتادة الآية بقوله: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع. وقال أبو عبيدة: لا تتبع ما لا تعلم وما لا يعنيك. انظر مادة قفو فى المعجم الوسيط وغيره، وفتح البارى 13/282.
(2) رواه البخارى فى باب حفظ اللسان من كتاب الرقاق.
(3) الإلماع ص 135 .
(4) فتح المغيث للسخاوى 3/47-51 .
(5) فتح المغيث 3/40 .
(6) مقدمة ابن الصلاح مع محاسن الاصطلاح ص 369 .
(7) الإلماع ص 150/151. قال عياض ما معناه : لو كان ما ذكره هو المراد من الحديث لم يكن هناك فرق بين الأنبياء وغيرهم ولم يكن معنى بتخصيصه بالأنبياء.
(8) الإلماع ص170 .
(9) الإلماع ص 172. انظر الجامع للخطيب 1/274. وقال ابن الصلاح فى الفائدة الثامنة من النوع الخامس والعشرين من المقدمة "يكره فى مثل عبد الله بن فلان بن فلان أن يكتب عبد فى آخر السطر والباقى فى أول السطر" وكذلك فى سائر الأسماء المشتملة على التعبيد لله وهكذا يكره أن يكتب " قال رسول " فى آخر السطر ويكتب فى السطر الذى يليه: الله صلى الله عليه وسلم " وقد انتقده العراقى باقتصاره على الكراهة مع تصريح الخطيب بوجوب اجتنابه وانظر الجامع للخطيب 1/268. والتقييد والإيضاح للعراقى ص 208.
(10) الإلماع ص 162. لكن اختار ابن صلاح أن اللحق إذا كان سطرين أو سطورًا فلا يبتدأ بسطوره من أسفل إلى أعلى بل من أعلى إلى أسفل.
(11) فتح المغيث 3/168. وهذا الحديث فى مسند أحمد 2/75. يريد لفظ (الخطاؤون) لحن، وصوابها (الخطاءين) لأنها صفة لما قبلها وما قبلها جر باللام وجمع المذكر السالم علامة رفعه الواو، وعلامة جره ونصبه الياء .
(12) انظر الإلماع ص 189، وعلوم الحديث لابن الصلاح النوع الخامس والعشرون الفائدة الرابعة عشر.
(13) المحدث الفاصل 544، والإلماع ص158، وعلوم الحديث لابن الصلاح الفائدة العاشرة من النوع الخامس والعشرين، وفتح المغيث للسخاوى 3/74-81.
(14) مقدمة ابن الصلاح الفائدة التاسعة النوع الخامس والعشرون.
(15) تدريب الراوى.
(16) فتح البارى 11/152 .
(17) الاقتراح 290-291.
(18) فتح المغيث للسخاوى 3/69.