كلمة جمعية المكنز الإسلامى
للأستاذ الدكتور / أحمد معبد عبد الكريم - أمين عام المؤتمر
"السنة النبوية بين الواقع والمأمول، نماذج وتطلعات"
العودة لصفحة المؤتمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد ...
فأكرر الترحيب والشكر والتقدير للعلماء الأجلاء، والعالمات الجليلات، على تلبيتهم دعوة جمعية المكنز الإسلامى بالقاهرة لحضور مؤتمرها الأول، فى رحاب السنة والسيرة النبوية، وبرعاية الأزهر الشريف، وأسأل الله تعالى أن يجعل إسهامهم هذا فى موازين أعمالهم، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونَ، إلا من أتى اللَّهَ بِقلبٍ سليمٍ.
وإن كلمتى هذه بين إخوانى وأخواتى المشاركين والمشاركات فى هذا المؤتمر، إن لم تقدم جديدًا على ما لديهم من الخبرة والعلم فإنى أقدمها من باب الذكرى التى تنفع المؤمنين، مع حرصى الشديد على الإفادة من مداخلاتهم التى تسدد وتتمم.
وأبدأ بتقرير: أن الواقع الأصيل والدائم للسنة النبوية هو تعاليمها الخالدة، فى بيان القرآن الكريم بمختلف أنواع البيان، عملا بقوله تعالى لنبيه الخاتم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة النحل الآية 44].
ومن واقع السنة الأصيل أيضًا تعاليمها الخالدة، التى تَعْمُر بها قلوب المؤمنين والمؤمنات؛ ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، وتعاليمها الخالدة إلى الأمة فى عباداتهم التى تتواصل عبر الأجيال، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِى أُصَلِّى»(1). وقوله لجموع الأمة فى عرفات: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ»(2)، وأيَّد ذلك القرآن الكريم فى مثل قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}[سورة الفتح الآية 10]، وقوله عز وجل {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[سورة النساء الآية 65]، وقوله {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
وأيضًا واقع السنة النبوية بتعاليمها الخالدة فى تنظيم المعاملات، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» (3)، وقوله: « لاَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» (4)، إلى غير ذلك من تنظيم جوانب حياة الأمة، بما يجعلها حقًّا خير أمة أُخْرِجت للناس. وفى حديث المقدام بن معدى كرب - رضى الله عنه - مرفوعًا: «أَلا إِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» (5).
وأيضًا تعاليم السنة الخالدة فى تنظيم أنواع السلوك الأخلاقى الرفيع فى شتى وجوه التعامل، مع الموافق والمخالف، والقريب والبعيد، ويُذكر فى إجمال ذلك ما أعلنه - صلى الله عليه وسلم - للعالمين، فى قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» (6) .
ولا شك أن كل من أنعم الله عليه بأن يكون من أمةِ هذا النبى الخاتم، وخالطت حقائق الإيمان قلبه وجوارحه، ليَتطلعُ فى كل لحظات الحياة إلى المزيد من العلم والعمل، بكل ما وجَّهت إليه السنة النبوية، فيما يحقق الخير والفلاح فى الدنيا والآخرة.
أما الجانب الآخر من الواقع والمأمول بالنسبة إلى السنة النبوية فهو جانب تراثها العظيم، الذى يمثل مكنزها الذى لا ينضب، والمنبع الصافى لها، والخالى من كل زيف ودخيل. والذى يتسع له المقام هنا هو بعض النماذج، التى أراها معبرة عن واقع ملموس، وأمل يُرتجى، ويُتطلَّعُ إليه على الدوام من الجميع، وبخاصة من الأساتذة وطلاب العلم الحاضرين معنا اليوم، وفى مقدمة ذلك علم علل الحديث، وتراثه ومناهجه الدراسية، وبحوثه المنشورة والمتداولة، ونموذج آخر وهو علم فِقْه السنة النبوية، وتوجيهاته فى معالجة قضايانا المعاصرة.
فعلم علل الحديث كثير من الدارسين يظنون أنه علم يشكك فى كثير من نصوص السنة النبوية، مع أننا بحاجة دائمة إلى توثيق أسانيدها، وسلامة نصوصها من الطعون والشبهات.
والواقع الذى يعرفه المختصون المعنيون بعلوم السنة أن علم علل الحديث علم متكامل البناء، بمعنى أنه لا يُعنى فقط بإثبات العلل فى الأحاديث، ولكن يُعنى أيضًا بدفعها عما يقال إنه معلول، وعند تحقيق الأمر يثبت أنه سالم من العلة، فهو يعتنى بالبحث والتحقيق فى وجود العلة فى الإسناد، أو فى المتن، أو فى كليهما، وذلك بواسطة ما يتوافر من القرائن، وما يؤيدها من القواعد النقدية المعتبرة لدى الأئمة المتقدمين، والمحققين ممن بعدهم، ومثل هذا تكون العناية أيضًا بدفع العلة عن الأحاديث التى نسبت إليها علة، ولكنها لا تثبت، بحسب القرائن والقواعد المعتبرة أيضًا.
ومن يراجع المصادر الأصلية لهذا العلم يجد مصداق ذلك، كما فى التاريخ الكبير للإمام البخارى، والضعفاء الكبير للعقيلى، والمسند للإمام البزار، ناهيك عن المؤلفات المفردة فى علل الحديث، كما سيأتى ذكر بعضها.
فهذا العلم فى واقعه الملموس ميزان عادل بين كِفَّتى الراجح والمرجوح، لتمييز الثابت عما ليس بثابت من المرويات الحديثية، مع ضرورة أن يكون المباشر لقضايا هذا العلم قد تأهل لذلك فعلا على المستوى اللائق من الدقة والعمق والإحاطة.
ورغم أهمية هذا العلم ودقته، والحاجة الماسة إليه، حتى فى كتب الأحاديث المشتهرة على الألْسِنة، فإنى قد عشت مع الكثيرين من أبناء جيلى، من طلاب علوم السنة، لا ندرس قضايا هذا العلم وقواعده وتطبيقاته إلا من خلال ما كان متاحًا آنذاك، من كتب مصطلح الحديث غير المحققة نصوصها تحقيقًا عِلميًّا، ويُكْتَفى فى تعليمنا بأمثلة محدودة.
كما أنه لم يكن متاحًا لنا من تراث علم العلل الجامع بين التقعيد والتطبيق على واقع الأحاديث غير متن كتاب العلل الصغير للإمام الترمذى، المذكور فى نهاية جامعه، وعلل الحديث لابن أبى حاتم المرازى الذى طبع فى مصر سنة 1343هـ فى مجلدين فقط، وعلى نسختين خطيتين، فيهما من القصور فى النصوص وسوء الطباعة ما جعل الإفادة من الكتاب فيها مخاطر وعوز، حسبما ظهر لنا الآن بعد إعادة تحقيق الكتاب على أصول أخرى أوثق. كما كانت تلك الطبعة القديمة خالية من الخدمات العلمية التى تضىء لنا سلوك الطريق الوعرة لهذا العلم الحافل بالدقائق والخفايا.
وعندما بحثنا عن علل الإمام أحمد حينذاك لم نجد أنه طُبع إلا نصف الكتاب فى مجلد واحد سنة 1408 هـ، خاليًا هو الآخر مما تدعو إليه الحاجة من تعليق وتوضيح(7)، وعلى مثل هذا المستوى طبع ما وجد من العلل لابن المدينى فى جزء صغير، وكذلك ما وجد من كتاب "التمييز" فى علل الحديث للإمام مسلم صاحب الصحيح.
أما أكبر المؤلفات - حتى الآن - فى علل الحديث فهو كتاب الإمام على بن عمر الدارقطنى المتوفى سنة 385هـ، وهو مرتب إجمالًا على مسانيد الصحابة رضى الله عنهم؛ بحيث يذكر الصحابى، ثم يسوق الأحاديث التى رُوِيَتْ عنه، وذُكر فيها علة، دون ترتيب للأحاديث حسب موضوعها.
ويظهر فى هذا الكتاب لمن يتأمله النضج والتكامل لعلم علل الحديث، واستقرار منهجه العام فى عرض طرق الخلاف، وتقرير التقعيد، والتطبيق العملى لما تقتضيه تلك القواعد على كل من الأسانيد والمتون، وذلك على يد الإمام الدارقطنى، بما يحقق قول من قال إنه (أعجز من يريد أن يأتى بشكله)(8).
وقد بدأت طباعة هذا الكتاب محققًا للمرة الأولى سنة 1405 هـ اعتمادًا على تسع نسخ خطية، منها واحدة كاملة الأجزاء مع خروم فى أثنائها، والباقى أجزاء متفرقة من عدة نسخ. وقد خرجت الأجزاء المطبوعة متفرقة خلال عدة سنوات، حتى توفى المحقق الأول، وهو الدكتور محفوظ الرحمن - رحمه الله - بعد خروج الجزء (11) من الكتاب، ثم توقف تحقيق وطباعة باقى الكتاب بعده عدة سنوات، وقد اكتُشف خلالها بعض المجلدات الخطية التى لم يقف عليها المحقق الأول، فتصدى بعده الدكتور محمد بن صالح الدباسى - مشكورًا - لتحقيق بقية الكتاب فى 4 مجلدات مع فهرس عام للكتاب، وهى المرة الأولى التى اعتمد فيها على مخطوطة لم يقف عليها المحقق الأول، وبواسطتها استدرك سقطًا متعددًا من أواخر الكتاب لم يوجد إلا فى تلك المخطوطة، التى حصل عليها من طريقى، وأصبح الكتاب كاملا فى (16) مجلدًا، للمرة الأولى سنة 1427 هـ، وبآخره مجلد للفهارس.
وفجأة ظهرت طبعة أخرى لكل الكتاب، وعليها اسم الدكتور محفوظ الرحمن المحقق الأول، ومحقق آخر هو خالد المصرى، ذاكرًا فى مقدمة الطبعة إكماله للكتاب بعد القَدْر الذى حققه الدكتور محفوظ الرحمن رحمه الله.
ولم يُفصح فى مقدمة هذه الطبعة عن الأصول الخطية التى اعتمد عليها فى تكملة الكتاب بعد المحقق الأول، ثم حصل الدكتور الدباسى على قطعة أخرى من نسخ الكتاب لم يسبقه أحد للاعتماد عليها، وبذلك أصدر طبعة ثالثة للكتاب كاملاً بتحقيقه وحده، وذكر فى مقدمة الطبعة أنه قابل ما حقَّقه الدكتور محفوظ الرحمن - رحمه الله - مرة ثانية بأصوله الخطية، واستفاد كذلك من القطعة الأخيرة المخطوطة، وقرر أن هذا كله قد مكَّنه من استدراك (400 سطر) جديد على الطبعة الأولى للكتاب، كما ذكر أن طبعة خالد المصرى السابقة قد حصل فيها سطو على طبعته التى أكمل بها الكتاب من قبل كما قدمتُ، وأثبت فعلًا نماذج تفصيلية لهذا السطو على عمله فى تكملة الكتاب.
وبذلك يكون قد حصل فى هذا السفر العظيم من تراث علم علل الحديث صورة من الواقع السيئ لتحقيق الكثير من تراث السنة النبوية، وهو تعدِّى بعض المنتسبين لحرفة التحقيق على جهود غيرهم، وسرقته جهارًا، دون وازع من دين أو ضمير، وتشجيع بعض دور النشر - مع الأسف - لهؤلاء على التمادى فى العدوان على حقوق الآخرين، وعلى حرمة تراث السنة المطهرة.
والقطعة الأخيرة التى حصل عليها د/ الدباسى، وتعجب من تأخر وقوفه عليها حتى سنة 1432 هـ (9) قد كانت معروفة لكثيرين منذ سنة 1398هـ حيث اكتشفها آنذاك الأخ الدكتور / همام عبد الرحيم - حفظه الله - عند تردده معنا على مخطوطات دار الكتب المصرية، ثم ذكر ذلك فى مقدمة تحقيقه لشرح علل الترمذى لابن رجب(10).
وعمومًا فإن الأخ الدباسى قد حصَّل من الأصول الخطية لعلل الدارقطنى ما لم يسبقه إليه غيره ممن حقق الكتاب، وشكر الله له جهوده فى إخراجه، واستدراكه الأخير على تكملته، ولكننا - كما أخبرته بالهاتف - ما نزال نطالبه بالتعجيل بإخراج طبعة رابعة للكتاب، تُوضَع فيها التصويبات والاستدراكات فى مواضعها من الكتاب، بدلًا من تشتت القارئ بين أجزاء الكتاب، وبين ما هو مستدرك أو مُصوَّب فى آخر الجزء (9).
وقد استجاب - حفظه الله - لهذا المطلب، ووعد بتلبيته فى طبعة قادمة إن شاء الله، ونرجو الله لنا وله ولكل خُدَّام السنة النبوية بأمانة وإخلاص، كلَّ توفيق وسداد. أما بقية كتب العلل فواقعها الآن لا يُقارَن بماضيها الذى سبقت الإشارة إليه.
فقد حُقِّق كتاب العلل لابن أبى حاتم الرازى عدة مرات، وعلى عدد من نسخه الخطية الموثقة، وبمنهج التحقيق والتوثيق العلمى للنصوص، وذلك فى رسائل جامعية، وبجهود وإشراف أساتذة الدراسات العليا المختصين بالحديث وعلومه، ومنهم كاتب هذه السطور، مع كوكبة من المشاركين لنا الآن فى هذا المؤتمر، ولم يكن منهج التحقيق فى تلك الرسائل ليقتصر على تحقيق النص وتوثيقه فقط؛ بل يكون مسبوقًا بدراسة تفصيلية لكل قسم محقق، كما يعلق الباحث على أحكام الإعلال فى كل مسألة، إما بإقرار المؤلف، أو بمخالفته، بحسب القرائن، وما تقضى به القواعد النقدية، وأقوال العلماء النقاد.
وبمثل هذا المنهج حُقِّق كتاب العلل للإمام أحمد برواية المروزى فى رسالة ماجستير فى الحديث وعلومه، وكانت بإشرافى.
أما كتاب العلل للإمام أحمد برواية ابنه عبد الله فهو مطبوع الآن طبعتين: الأولى بتحقيق وصى الله عباس، أستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى. والطبعة الثانية تكملة للطبعة القديمة للكتاب؛ حيث طبع الجزء الأول فقط من الكتاب لأول مرة، وبقى متداولا وحده سنوات متعددة قبل أن يطبع الجزء الثانى والأخير، وكان تحقيق الكتاب فى هذين الجزءين بواسطة أستاذين من الأتراك لهما عناية بعلم الحديث، وهما الدكتور طلعت قوج، والدكتور إسماعيل جراح، وذلك سنة 1987م. ولهذه الطبعة وسابقتها مميزات بما اشتمل عليه كل منهما من فهارس مفيدة، ودراسة تحليلية مقارنة.
كما طُبِع أيضًا قطعة من المنتخب من علل الخلال انتخاب الإمام ابن قدامة المقدسى، بتحقيق وتعليق الشيخ طارق عوض الله، وطبع العلل الكبير للترمذى بترتيب القاضى أكثر من طبعة، وكذلك القطعة الموجودة من علل ابن المدينى، والقطعة الموجودة من كتاب التمييز للإمام مسلم، طُبِع كلٌّ من الكتابين عدة طبعات.
ولم يتوقف الأمر عند هذا، بل تجاوزه إلى طبع بعض المؤلفات المهمة فى شرح المؤلفات الأصلية فى علل الحديث.
فشرح الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادى المتوفى سنة 735هـ قطعة من كتاب علل الأحاديث لابن أبى حاتم الرازى، وطُبِع ما وُجِد من هذا الشرح - بحمد الله - أكثر من طبعة أيضًا. كما طبع كتاب العلل الصغير للإمام الترمذى، الموجود فى نهاية جامعه مع شرحه، الذى يعد جزءًا من شرح جامع الترمذى كله، للحافظ ابن رجب الحنبلى المتوفى سنة 795هـ.
وشرح ابن رجب هذا يعد هو الشرح الكامل لجامع الترمذى فى وقته، ولكن للأسف فقدنا هذا الشرح، عدا شرح كتاب العلل هذا، وبعض أبواب يسيرة من أثناء الجامع، وسبب فَقْد هذا الشرح الهام، هو ما ذُكر فى ترجمة مؤلفه من أن هذا الشرح قد احترق فى عدوان التتار على بلاد الشام بعد العراق، وحرقهم تراثَ المسلمين العلمى ببلاد الشام سنة 803هـ(11) وقد طُبع شرح العلل هذا مرتين بواسطة أخوينِ فاضلين من أساتذة الدراسات العليا الحديثية.
أما بقية الأبحاث والمؤلفات المعاصرة فى علم العلل ففى تنوعها وبحوثها التقعيدية والتطبيقية ما يصور نهضة وازدهارًا، يلمس جوانبها ودقائقها من أُتِيح له الاطلاع على أىٍّ منها.
وذلك مما لم نكن نحلم بتحققه فى مراحل طلبنا للعلم، ودراستنا للحديث وعلومه حتى نهاية المرحلة الجامعية سنة 1966م.
ويسعدنا أن يكون من بين زملائى الأفاضل، والعلماء الأجلَّاء، والعالمات الجليلات، المشاركين فى هذا المؤتمر، ولا سيما من له إسهامات تأليفية فى تحقيق جوانب نهضة هذا العلم وازدهاره. ويكفى تدليلًا على ذلك ما طبع من بعض المؤلفات المخصصة لتوضيح قواعد الترجيح والجمع بين أوجه الخلاف وتطبيقاتهما التى هى أبرز الوسائل لإثبات العلة أو نفيها، سواء كانت فى السند أم المتن أم كليهما، بل نوقشت منذ زمن قريب رسالة دكتوراه فى جامعة الأمير عبد القادر بالجزائر، وموضوعها "فقه القرائن"، وتناولت ذلك من جانبى التقعيد والتطبيق.
وأما ما يتعلق بالمناهج الدراسية لعلم علل الحديث فإن واقعها الآن - بحمد الله - متوائم، مع توافر وتنوع الموجود من تراثه وأبحاثه التى سبقت الإشارة إلى جوانبها، وكثير منها مطبوع ومتداول بين أيدى طلبة العلم وأساتذته والمختصين به.
فقد أصبحت أقسام دراسة الحديث وعلومه - بحسب تواصلى معها فى جامعات العالم الإسلامى والعربى، من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب - تُخصِّص فى برامجها الدراسية ساعات متعددة لدراسة علم علل الحديث وتراثه، ومناهج علمائه المتقدمين والمحققين من المتأخرين. وكان لى شرف المشاركة فى وضع وتدريس تلك المناهج فى عدد من تلك الجامعات، والإشراف والمناقشة لعدد غير قليل من رسائل الماجستير والدكتوراه، ومنها ما هو مطبوع متداول.
واسمحوا لى أن أشير إشارة سريعة إلى أن فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب - عندما تولى رئاسة جامعة الأزهر قرر تطوير وتعميق مناهج الدراسة الجامعية والعليا فى أعرق كليات الأزهر: وهى كليات الشريعة، وأصول الدين والدعوة واللغة العربية. وكوَّن لجانًا مختصة من جميع الأقسام العلمية، وكان يجلس بنفسه معنا خلال تلك اللجان، على قدر ما تسمح به مسئولياته الأخرى، أو كان ينيب عنه نائبه آنذاك الأستاذ الدكتور عبد الفضيل القوصى، وزير الأوقاف والشئون الإسلامية حاليًّا، وأحيانًا كانا يحضرانِ بعض الجلسات معًا لتعزيز سرعة الإنجاز.
وقد أثمر ذلك - ولله الحمد - ثمرات عديدة، وأهمها بالنسبة للحديث وعلومه تقرير منهج دراسى مستقل لعلم علل الحديث فى المرحلة الجامعية، وفى الدراسات العليا، وذلك لأول مرة فى كليات الأزهر. كما تقرر منهج دراسى مستقل لدراسة الأسانيد فى كل من المرحلة الجامعية والعليا، لأول مرة أيضًا. كما تقرر منهج دراسى مستقل فى الدراسات العليا لتحقيق التراث، وبخاصة تراث الحديث وعلومه. وقد تم - بحمد الله تعالى - تفعيل تلك المناهج الثلاثة، ووضع معايير الجودة لها، بالمشاركة مع هيئة الجودة المصرية، وقد يسر الله تعالى لى المشاركة فى اللجان العلمية والتربوية لوضع تلك المعايير.
وقد بدأ - بالفعل - تسجيل ومناقشة بعض رسائل الماجستير والدكتوراه بعدد من أقسام الحديث بالجامعة، ونتطلع إلى طباعة بعض تلك الرسائل ونشرها لتيسير الإفادة منها.
كما نتطلع إلى تكاتف الجهود بين الأساتذة المختصين والطلاب والطالبات الباحثين، من أجل تقدم المستوى التحصيلى والبحثى بخطى ثابتة، وأن يلتزم الجميع بالمناهج النقدية المؤصلة فى علوم كلٍّ من العلل، ودراسة الأسانيد، وتحقيق التراث الحديثى، بما يحقق المسلك الأمثل، بعيدًا عن التساهل الممقوت، وعن التشدد والتفرق المضيع للجهود.
أما جانب فقه السنة النبوية وقضايانا المعاصرة، فخير ما يمثل معالمه - فى تقديرى - جهود "الندوة الدولية للسنة النبوية" فى كلية الدراسات الإسلامية والعربية، فى "دُبَى"، والتى يرعاها رجل الأعمال المعروف معالى "جمعة الماجد"، شكر الله له، ويتولى أمانتها العامة، ومسئوليتها العلمية الأخ الدكتور / حمزة المليبارى، وهو حاصل على درجة الماجستير فى الحديث وعلومه، من كلية أصول الدين بالقاهرة، ويسعدنا مشاركته فى مؤتمرنا هذا، رغم أعبائه التى أعرفها وأقدرها تمام التقدير.
وهذه الندوة قد عَقدت - بتوفيق الله تعالى - خمس مؤتمرات دولية، على مدى عشر سنوات، وفى كل مؤتمر اختارت اللجنة العلمية للندوة - وكنت من بينهم - عنوانًا عامًّا للمؤتمر، يمثل قضية من قضايانا العامة المعاصرة، وبيان موقف السنة النبوية من جوانب تلك القضية، وذلك يصور فقه الإسلام في تلك القضية، على ضوء السنة والسيرة النبوية، التى جعلها الله تعالى أسوة حسنة للعالمين.
وقد طبعت أبحاث تلك الدورات الخمس، وتم تداولها بين الباحثين، وكلها بحوث مُحكَّمةٌ عِلميًّا، والذى يتسع له المقام هو ذِكْر عناوين بعض تلك المؤتمرات، وموضوعات بعض محاورها.
فالمؤتمر الثالث للندوة كان بعنوان "القيم الحضارية فى السنة النبوية"، وقد تناولت محاورُهُ جمهرة من القيم البناءة، ومن بينها "ركائز التنمية المستدامة، وحماية البيئة فى السنة النبوية"، ومنها "الاستثمار الزراعى من خلال توجيهات السنة النبوية"، ومنها "حرية التعبير وضوابطها فى السنة النبوية".
وهناك الدورتان: الرابعة والخامسة للندوة، وأكتفى بذكر عنوان مؤتمر كل منهما، فالدورة الرابعة كان عنوانها "السنة النبوية بين ضوابط الفهم السديد، ومتطلبات التجديد"، والدورة الخامسة كانت بعنوان "الاستشراف والتخطيط المستقبلى فى ضوء السنة والسيرة النبوية".
ومن هذه النماذج يتضح لنا - بجلاء - أن السنة والسيرة النبوية إذا أُحْسِنَ الاطلاع الواسع على مصادرها، وتعمَّقَ النظر الهادف والواعى فى نصوصها ودلالاتها ومقاصدها الحكيمة، فسيجد المسلم الصادق الإيمان فيها زاده العلمى والعملى الوفير والمتجدد، فى جميع ما يتطلع إليه الإنسان لصلاح دينه، ورُقى دنياه، وحسن ثوابه فى الآخرة، كما وعد الله .
وهذا وذاك غاية ما تطمح إليه الآمال الكبار للأفراد والمجتمعات ويُبذَل فى سبيله صالحُ الجهود والأعمال على الدوام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وكتب
أ.د/ أحمد معبد عبد الكريم
(1) أخرجه البخارى فى صحيحه كما فى الموضعين (631 و 6008).
(2) أخرجه مسلم، برقم (1297).
(3) أخرجه البخارى برقم (2165)، ومسلم برقم (1412) كلاهما من حديث ابن عمر - رضى الله عنهما .
(4) مسلم 3508.
(5) أخرجه أحمد فى مسنده (4/132) واللفظ له، والترمذى (2664) وحَسنه، والحاكم (1/109) وصححه.
(6) أخرجه البزار فى مسنده كما فى كشف الأستار (2470)، وأحمد فى المسند (2/381)، والحاكم فى المستدرك (2/613) كلهم من حديث أبى هريرة وصححه الحاكم ولفظ أحمد والحاكم "صالح الأخلاق" .
(7) ينظر ما يؤيد ذلك فى مقدمة تحقيق العلل للإمام أحمد، الطبعة التركية 1/8 .
(8) ينظر مختصر علوم الحديث لابن كثير 1/198، ط دار العاصمة .
(9) ينظر العلل بتحقيقه (9/447) .
(10) ينظر 1/36 ط دار الرشد.
(11) ينظر مقدمة الدكتور عبد الرحمن العثيمين لتحقيق كتاب ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/46 .
العودة لصفحة المؤتمر