الضوابط الكليَّة التى على المجتهد التقيُّد بها أثناء تبيين درجة الحديث الشريف
فى ضوء قواعد المحدّثين والفقهاء
د. إيمان بنت محمد على عادل عزّام
عضو هيئة التدريس بقسم الدرسات الإسلامية بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
العودة لصفحة المؤتمر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدّمة
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على معلّم الناس الخير سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم، وبعد،،،
أوّلاً: مشكلة البحث:
لقد خطا المعاصرون خطوات طيبة، وبذلوا جهودًا جيّدة فى نشر السنّة، وتحقيق التراث النبوى الشريف، وهو شرف كبير.
وقد أجادوا فى مواضع وجزئيات كثيرة فى دراسات عديدة ومهمّة يصعب حصرها.
ومع الاعتراف بذلك، فإن تسليط الضوء على مواطن القصور مهمّ، ولو كان غير محبّبٍ إلا حيث يتجرّد المرء عن الهوى، ويكون الله – عزّ وجلّ - ورسوله – صلى الله عليه وسلم - أحبّ إليه مما سواهما.
وإنّه ثمّة أمر مزعج ومقلق مستشر بين بعض المشتغلين بالحديث النبوى فى زماننا، الذين اشتغلوا بالتحقيق أو الأبحاث على حدّ سواء، وسواء كانوا فى تخصص الحديث أو غيره من فروع العلوم الشرعية، وذلك أنّهم أثناء تبيينهم درجة الحديث الشريف مستخدمين القواعد التى وضعها المحدّثون كثيرًا ما أبطلوا حكم المحدّثين الأوائل، فالمتقدّم يقول: صحيح، والمتأخر يقول: حسن، بل يقول: ضعيف، بل أحيانًا يقول: موضوع.
ولقد كنت أقوم بدراسة الإسناد، فأجد أحوال الرجال تشهد لحكم المعاصرين فى بعض الأحيان، ومع ذلك، فخطؤهم كان متيقّنًا لدى، وإن كنت أفتقر إلى إثبات ذلك بالدليل.
ولقد جذبنى عنوان المؤتمر (السنّة النبوية بين الواقع والمأمول) الذى يوحى بمراجعة جهود أهل هذا العصر فى خدمة السنة النبوية، ومنها الحديث الشريف - على صاحبه أفضل الصلاة والسلام - إلى العزم على الدراسة المتأنية لهذا الأمر المزعج لأتبيّن حقيقته من خلال دراسة تبنى على الدليل والعلم لا على الحدس والظنّ.
وما إن بدأتُ الدراسة حتى بدت لى مجموعة أخطاء وقعنا فيها - للأسف الشديد -:
لقد نشرنا حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فى طبعات متكاثرة لم يعرف التاريخ مثلها مرقّمة ميسّرة، محوسبة - إن صحّ التعبير - ولكن نشرنا معها ما يلى:
* اقتناعًا فكريًا ونفسيًا بالتقليل من شأن الحديث النبوى كلّه غير حديث الصحيحين، وهذا فيه فقد حقيقى لمعظم السنّة، ولو نشرناها.
* لقد حكمنا على أحاديث بالضعف ترك المحدّثون قصدًا بيانها؛ لئلا يصرفوا الناس عن العمل بها.
وإذا كان الحكم على الحديث بمعرفة درجته وسيلة يقصد منها معرفة صلاحيته للعمل به، فما الذى يفيده حُكمُنا عليها بالضعف إذا علمنا أنها أحاديث تلقّاها المحدّثون والفقهاء بالقبول، وعليها العمل عندهم؟!!
وأرى أنه قد أخطأ من راح يعيد تصنيف الأحاديث التى رواها الأئمة الكبار أصحاب الكتب الستة إلى سلسلة الأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة، وخطؤه من جهات:
1 – " أن تقسيم كتب الحديث المعتمدة إلى صحيح وضعيف هو خروج عن مذهب علماء الأمة المتقدمين، واعتداء على أصحاب تلك الكتب؛ لأنه ما من واحد منهم – رحمهم الله تعالى – إلا كان بإمكانه تقسيم كتابه إلى ذلك؛ لأنهم حفّاظ، وقادرون على ذلك، فلما لم يفعلوا دلّ على اعتماد منهج معيّن عنده، لذا من أراد تقسيم كتاب فليفعل ذلك لنفسه من غير اعتداء على كتب الأقدمين، خاصة ونحن نرى ما فى تلك الكتب الجديدة من خروج على حكم السابقين. " (1)
2 – أن تقسيم كتب الحديث المعتمدة إلى صحيح وضعيف فيه إيهام للعامة بأن الاحتجاج لا يكون بالضعيف الذى فى كتاب أبى داود مثلا، مع أن أبا داود أورده فى كتابه، وقال: وهو صالح.
3 – أن تقسيم كتب الحديث المعتمدة إلى صحيح وضعيف فيه إيهام بأن العامة يصلحون للاحتجاج بالحديث.
والاحتجاج لا يصلح له إلا المجتهد؛ لأنّ الفقه لا يعتمد فى استخراج الحكم على الدليل الجزئى، ولأن العمل بالحديث وحكمه ليسا متلازمين فى جميع الأحوال، بل ربما يكون حديث صحيح منسوخًا، أو حديث ضعيف عليه عمل الفقهاء.
3 - أن الحكم على الحديث المسكوت عنه عند من صرّح بشرطه من الأئمة، فى ضوء القواعد العامة المقررة فى كتب المصطلح، غير جازم كما سنعرف.
4 – وأخيرًا، أن تقسيم كتب السنة إلى صحيح وضعيف فيه دعوة لهجر كتب التراث التى تلقتها الأمة بالقبول عبر الأجيال، لتستبدل بما يقدّمه قوم من المعاصرين أساءوا لكتب التراث؛ ليكون الأمر كما وصفه السيد محمود سعيد ممدوح منتقدًا بقوله " ولا حاجة للعودة إلى سنن أبى داود، وسنن الترمذى؛ لأنها تجمع الصحيح والضعيف، أما "كتابنا هذا، ومشروعنا إياه "، فهو الصحيح المجرّد " إذ هو الذى تشتد حاجة الناس كافة إليه، وهو الذى يسعى المكتب إلى إشاعة العلم به، والعمل بين الأجيال المعاصرة والمقبلة – بإذن الله – من المسلمين " (2).
* لقد حكمنا على أحاديث بأنها ضعيفة جدًا بل موضوعة، وقد أخرجها كبار المحدّثين فى مصنّفات قصدوا منها جمع أدلّة الأحكام للاحتجاج بها، فهل غفل هؤلاء الكبار عما تنبّهنا إليه؟ أم عرفوه، ورووه ليضلّونا به؟ نزّههم الله عن الأمرين جميعًا.
وليس شىء مما ذكره المحدّثون إلا وقد أخذ به أحد أئمة الفقهاء، يقول أستاذنا الجليل د. خليل إبراهيم ملا خاطر: " من المعلوم أن الفقهاء المجتهدين – رحمهم الله تعالى – كلّهم قد سبقوا المحدّثين المصنّفين فى الزمن، فأوّلهم: أبو حنيفة – رحمه الله تعالى - وهو متوفّى سنة 150 هـ، ثم الإمام مالك – رحمه الله تعالى - وهو متوفى سنة 179 هـ، ثم الإمام الشافعى – رحمه الله تعالى - وهو متوفّى سنة 204 هـ، وآخرهم هو الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله - وهو متوفّى سنة 241 هـ.
بينما أوّل المصنّفين من المحدّثين من الأئمة الستة هو الإمام البخارى – رحمه الله تعالى – وهو متوفّى سنة 256 هـ، وآخرهم هو الإمام النسائى – رحمه الله تعالى – وهو متوفّى سنة 303 هـ، وقد مات ثلاثة من الفقهاء قبل أن يولد – أو يطلب العلم – أوّل المحدّثين " (3).
وقال: " وقد كان اعتماد الفقهاء فى استنباط الفروع من الحديث على أسانيد لهم، وفعلوا ذلك قبل تقعيد كثير من قواعد الحديث وضمن ضوابط رسموها، لذا فقد يختلف حكم المحدّث – فيما بعد – على حديث عن حكم الفقيه، لذا بادر كثير من المحدّثين إلى تدوين ما يرونه أدلّة للمذهب الفرعى الذى يميل إليه أو يعتنقه، لذا ذكر فى هذه المصنّفات ما هو ضعيف عند المحدّثين، وإن كان الفقيه قد اعتمد ذلك لعوامل أخرى متعددة، والله تعالى أعلم " (4).
وأضيف: بل إن الفقيه نفسه قد يروى حديثًا فى كتابه على وصف دون الذى تحمّله به.
قال الزركشى ت 794 هـ - رحمه الله -: " قال الشَّافِعِى - رضى اللَّهُ عنه - فى الرِّسَالَةِ: " فَكُلُّ حَدِيثٍ كَتَبْته مُنْقَطِعًا فَقَدْ سَمِعْته مُتَّصِلاً أو مَشْهُورًا عَمَّنْ رُوِى عنه بِنَقْلِ عَامَّةٍ من أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْرِفُونَهُ عن عَامَّةٍ، وَلَكِنْ كَرِهْت وَضْعَ حَدِيثٍ لا أُتْقِنُهُ حِفْظًا خَوْفَ طُولِ الْكِتَابِ، وَغَابَ عَنِّى بَعْضُ كُتُبِى انْتَهَى.
فَنَبَّهَ - رضى اللَّهُ عنه - على أَنَّ كُلَّ ما يُورِدُهُ من الْمُنْقَطِعَاتِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ سَوَاءٌ ابن الْمُسَيِّبِ أو غَيْرُهُ، وَاسْتَفَدْنَا من هذا أَنَّ ما وَجَدْنَاهُ فى كُتُبِهِ من الْمَرَاسِيلِ لا يَقْدَحُ فى مَذْهَبِهِ من عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بها، فَأَبَانَ بهذا أَنَّ ما نَجِدُهُ من الْمُرْسَلِ هو عِنْدَهُ مُتَّصِلٌ، وَلَكِنْ تَرَكَ إسْنَادَهُ لِمَا ذَكَرَ " (5).
والمقصود أنّ المحدّثين الذين صنّفوا دواوين السنّة الأصول إنما قصدوا جمع أدلّة الأحكام التى عمل بها أئمة المذاهب، وبعضهم صرّح بهذا القصد، وبعضهم ذكره ضمنًا فى أثناء منهجه فى التصنيف حيث اختار التصنيف على أبواب الفقه.
وممن صرّح أبو داود والترمذى - رحمهما الله -.
قال أبو داود رحمه الله " وأما هذه المسائل: مسائل الثورى ومالك والشافعى فهذه الأحاديث أصولها " (6).
وقال الترمذى - رحمه الله -: " جميع ما فى هذا الكتاب من الحديث فهو معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين... " ذكرهما ثم قال: وقد بينا علة الحديثين جميعًا فى الكتاب " (7).
وحيث روى المحدّث أدلّة الفقهاء؛ رواها بالطريق الذى تيسّر له، ولو لم تتحقق فيه شروط الاحتجاج ظاهرًا، ولو كان ثابتًا عند الفقيه بطريق صحيح.
وعليه، يكون الضعيف الذى فى كتب الأئمة - ما لم يرووه للتنبيه على ضعفه – صالحًا فى الأغلب؛ لأنهم بنوا كتبهم فى الأصل على جمع ما هو صالح من الأحاديث، سواء للاحتجاج أو العمل.
* لقد خالفنا المحدّثين فى حكمهم الذى وصلوا إليه مستخدمين قواعدهم التى أسسوها لنا، فنظرنا فى كتب التراجم، ورأينا تضعيف الإمام لفلان من الرواة، فَرُحْنا إلى حديث فى كتاب حكم عليه بالصحّة أو الحسن، وفى رواته ذلك الضعيف، فخالفناه فى حكمه، وشَرَعْنا نبيّن أسبابنا من كتب الرّجال فرحين بالإنجاز الذى وصلنا إليه بمخالفة هذا الإمام العلَم.
يقول د. حمزة المليبارى: " يعلّ النقّاد حديثًا من مرويات ثقة بحجّة تفرُّده به، أو زيادته، أو مخالفته لغيره، فيأتى بعض المعاصرين، ويقول: كلاّ إنه صحيح ورواته ثقات، ولا يضرّ التفرّد هنا، أو لا تضرّ الزيادة لأن صاحبها ثقة. وإذا صحّح النقّاد حديثًا من مرويات راوٍ ضعيف، أو حديثًا من مرويات المدلّس الذى عنعن فيه، فيقول المعاصر: " كلاّ، إن الحديث ضعيف؛ لأن فى سنده راويًا ضعيفًا، أو عنعنة المدلّس كما هو مقرّر فى كتب المصطلح " (8).
وقد يكون تصحيح المتقدّم قائمًا على ما عنده من متابعات وشواهد لذلك الراوى الضعيف، وجمع للأبواب، وغيره مما لم نطلع عليه نحن المتأخرين، وكذا حديث المدلّس، فربما وجد المحدّث من المتابعات ما بيّن له تصريحًا بالسماع؛ لكنه آثر الإتيان بالرواية المعنعنة لأمور عديدة، بسطها فى محلّها من كتب المصطلح.
وعمومًا، فإنّ هذه الجرأة فى الحكم على الأحاديث يدعمها بعضهم، ويؤلّف فى الاستدلال لها كما قال أحدهم: " فى ضوء ما سبق من دراستنا الحديثية، فإنّ النتيجة التى توصّلنا إليها بعد هذا التطواف أن تصحيح الأحاديث وتحسينها فى العصور المتأخرة، ومنها العصر الحالى، أمر ممكن لكل عالم بالغ الأهلية، وتحققت فيه شروط العلم، وحاز الأدوات التى يحتاجها المجتهد، سواء وافق فى حكمه المتقدّمين أم خالفهم... " (9).
ولنضع عدّة خطوط تحت عبارة (لكل عالم بالغ الأهلية) وسنعرف فى بحث ضوابط الحكم على حديث بالصحّة شروط هذه الأهلية، ثم لنر مَنْ مِن المعاصرين حاز تلك الشروط؟!!! ثمّ – وإن حازها جدلاً – فهل يحقّ له مخالفة المتقدّمين فى حكمهم؟!!!
* وفى حين أننا نعتمد فى الحكم على الحديث على ظاهر الإسناد فى معظم الأحوال – وهو خطأ -، فإنّ من أخطر ما وقعنا فيه أننا اعتمدنا فى تضعيف الأحاديث - بل فى الحكم بالوضع أحيانًا - على النظر فى متن الحديث مجرّدًا، فحكمنا بالوضع على أحاديث ظهر لنا أنها تخالف العقل أو الذّوق أو الحسّ، أو القطعى، وهذه سابقة لنا سَبقْنا فيها المحدّثين الذين ليس فى قواعدهم مطلقًا النظر المجرّد للمتن كما سنعرف فى هذا البحث، فقد روَوْا أحاديث الصفات التى رواها الثقات، والتى ظاهرها يخالف القطعى من القرآن الكريم، ثمّ قالوا: أَمِرُّوها كما جاءت.
والمقصود: أنّ طريقتنا طريقة مبتكرة ليس عليها المحدثون، فالمحدّثون نظروا إلى الأسانيد مع المتون، والمعاصرون نظروا إلى الإسناد وحده، أو المتن وحده.
وباختصار شديد: لقد نشرنا علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوقفنا - ولو بدون قصد - العمل به، فكأننا ما نشرناه، بل هو أشدّ.
وأحسب أن الخوف من غلق باب الاجتهاد فى نقد الأحاديث منع أقوامًا من فتح آذانهم وعقولهم لسماع كلّ نقد يوجّه إليهم فى هذا الباب.
ولست أقصد فى هذا البحث أن أدعو إلى غلق باب الاجتهاد فى نقد الأحاديث، وإنما أقصد تقنين الاجتهاد وتبيين ضوابطه توقّيًا من الوقوع فى الأخطاء التى ذكرتُها بإسهاب فيما سبق.
ثانيًا: خطّة البحث، ومنهجه:
أ - خطّة البحث:
ليس المهمّ أن نعرف أو نعترف بما اقترفناه من خطإ فى حقّ حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإنما الأهمّ أن نعرف كيف ولماذا وقعنا فى هذه الأخطاء؟ لذلك فقد استعضتُ عن إثبات أخطاء المعاصرين بالدليل والتوثيق بالبحث عن أسبابها، ثمّ البحث فى كتب التراث عن الضوابط التى ينبغى التقيّد بها أثناء الاشتغال بتبيين درجة الحديث النبوى حتى تعصمنا من الوقوع فى خطإ أعظمه الرجوع على أحكام المحدّثين بالبطلان، وما تبعه من أخطاء.
وبناء على ذلك، جاء هذا البحث مكوّنًا من: مبحثين، وخاتمة.
المبحث الأوّل: أسباب وقوع المعاصرين فى الخطإ أثناء تبيينهم درجة الحديث الشريف.
المبحث الثانى: الضوابط الكليّة التى ينبغى للمشتغل بتبيين درجة الحديث الشريف التقيّد بها.
وأشير إلى أنّه توجد ضوابط تخصّ حكم الصّحة خصوصًا، وضوابط أخرى تخصّ حكم الضعف، وضوابط غيرها تخصّ الحكم بالوضع؛ ولكن لم يتّسع هذا البحث لذكرها، فاكتفيت فى هذا البحث بالضوابط العامّة، وجعلت الضوابط الخاصة فى بحوث أخرى؛ آملة أن تنشر قريبًا فى بعض المجلاّت العلمية المحكّمة.
الخاتمة، وفيها أهم التوصيات.
ب – منهج الكتابة:
المنهج العام فى هذا البحث هو بإجمال المنهج المتبع فى البحوث العلمية بخطوطه العريضة (10) مع الحرص والاهتمام بالاستدلال على كل فكرة ترد فى البحث بأقوال المحدّثين والفقهاء التى معها يطمئن القارئ لصحّة الطرح.
ولا أزعم أن ما أقدّمه فى هذا البحث صواب محض أو دراسة متكاملة تامّة، بل هو بحث مطروح للنظر فى مجمع حافل بالأساتذة الذين لهم ممارسة ودراية بعلوم الحديث الشريف، فإن خدمة السنّة النبوية عمل جليل وجدير بأن تحشد الجهود المتوالية لتقييمه وتقويمه وصولاً إلى الإتقان الذى يرضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قدر الوسع والطاقة إن شاء الله.
وفيما يلى عرض موجز لما وصل إليه البحث من دراسة مشكلة كلام المعاصرين فى درجة الحديث النبوى، بما يخالف السابقين، وما تفرّع عنه من أخطاء فى مبحثيه اللذين يعنيان بالأسباب، ومن ثمّ الضوابط التى هى وسيلة تحمى من الوقوع فى الخطإ بإذن الله تعالى.
(المبحث الأوّل)
أسباب وقوع المعاصرين فى الخطإ أثناء تبيينهم درجة الحديث الشريف
لقد وصلت الدراسة إلى أنّ الخطأ يكمن فى ستة أسباب رئيسة:
أوّلها وأهمّها: أن المعاصرين عملوا بالقواعد الجزئية، وتركوا التقيّد بالإطار العام:
فإنّ القواعد التى وضعها المحدّثون إنما تعمل أو تُعمَل ضمن إطار عام، لم ينتبه له كثير منا، والتزام الجزئيات لا يعطى نتائجه إن لم تكن داخل إطار الكلى الذى يشملها.
وهكذا، فإنّ تطبيق قواعد المحدثين، وكلامهم فى شروط الإسناد، وكلامهم فى أحوال الرواة، وبيان العلل المؤثّرة التى تقع فى الأحاديث، ثمّ الخروج عن منهجهم العام، لا يعطى نتائج صحيحة.
ولقد أشار المحدّثون والفقهاء إلى هذا الإطار العام خلال كلامهم، لكنّهم لم يكونوا مضطرين إلى إبرازه والتأكيد عليه؛ لأنه كان ثقافة عامة عليها عمل الناس فى زمانهم الذى - بلا شك - لم يكن فيه الكلام على حال السند مهمّة طلاّب الشريعة كافّة كما هو فى عصرنا.
وسوف نتعرف على مكوّنات هذا الإطار العام المشكّلة من عدّة ثوابت معرفية عند الحديث عن الضابط الأوّل، الذى على المجتهد التقيّد به أثناء اشتغاله ببيان درجة الحديث الشريف.
السبب الثانى للخطإ: غياب القواعد الأصولية عن ذهن المشتغلين بنقد الأحاديث:
إن معظم المشتغلين بالحديث الشريف إنما يستمدّون معارفهم المتّصلة بالحديث الشريف وأنواعه من كتب علوم الحديث وكتب الرجال، وفرقٌ بين المعرفة النظرية لأنواع الحديث، وأحوال الرّجال، وبين الآلية والمنهجية التى على المجتهد اتباعها ليصحّ له إلحاق الحديث بوصفه اللائق به حسب دراسة إسناده.
وبوصف المحدث مجتهدًا، فإن جزءًا كبيرًا من هذه الآلية يقدم له قواعد وضوابط لازمة للمجتهد عمومًا، وهذه محلّها كتب أصول الفقه، فلمّا غاب هذا الجزء عن ذهن كثير من النّاس أثناء اشتغالهم بتبيين درجة الحديث الشريف وقعوا فى خطإ مخالفة الأوائل.
وأذكر - كمثال على ذلك -: قاعدة (الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد) فإن هذه قاعدة أصولية لا تسمح مثلاً بمحاكمة أبى داود أو النسائى – رحمهما الله - باجتهاد غيرهما فى بيان درجة الحديث الذى ذكرا درجته، وهما إمامان كبيران.
ولا تنقضُ هذه القاعدة قاعدة (أن الجرح المفسّر مقدّم على التعديل) عند جمهور المحدّثين (11)، حيث إنّ لكل من القاعدتين موضع إعمال.
فقاعدة (الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد) محلّ عملها اجتهاد إمامين فى بيان درجة حديث معيّن.
ويحمل عليها قول أبى عيسى الترمذى (ت 279هـ) فى كتابه (العلل الصغير): " وقد اختلف الأئمة من أهل العلم فى تضعيف الرجال، كما اختلفوا فى سوى ذلك من العلم، ذكر عن شعبة أنه ضعَّف أبا الزبير المكى، وعبد الملك بن أبى سليمان، وحكيم بن جبير، وترك الرواية عنهم، ثم حدث شعبة عمن هو دون هؤلاء فى الحفظ والعدالة، حدث عن جابر الجعفى، وإبراهيم بن مسلم الهجرى، ومحمد بن عبيد الله العرزمى، وغير واحد ممن يضعّفون فى الحديث" (12).
فهذا مثال على اختلاف النظر والاجتهاد فى الحكم على الراوى.
ويحمل عليها تصرّف ابن جرير الطبرى ت 310 هـ - رحمه الله – فى كتابه (تهذيب الآثار) الذى سار فيه كلّه على ذكر ما صحّ من الحديث على مذهبه ووفق اجتهاده، ثم ذكر حكم الحديث وفق اجتهاد غيره ممن يخالفه فى بعض الشروط، فتجده يقول بعد كل حديث يورده: " وهذا خبر عندنا صحيح سنده، لا سبب يضعفه، ولا علة توهنه، لعدالة من بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نقلته، وقد يجب أن يكون سقيمًا غير صحيح، لعلل... " (13) ثم يذكر تلك العلل.
فهذا مثال على اختلاف النظر والاجتهاد فى الشروط المعتبرة للحكم بالصحّة.
ويحمل عليها قول ابن دقيق العيد ت 702 هـ فى مقدّمة كتاب يجمع فيه أدلّة الأحكام: " وشرطى فيه: أن لا أورد إلا حديث من وثَّقه إمام من مزكى رواة الأخبار، وكان صحيحًا على طريقة بعض أهل الحديث الحفاظ، أو أئمة الفقه النظار، فإن لكل منهم مغزًى قصَدَه وسلَكَه، وطريقًا أعرض عنه وتركه، وفى كل خير" (14).
فقوله (وكان صحيحًا على طريقة بعض أهل الحديث الحفّاظ...) وقوله أيضًا (فإن لكل منهم مغزًى قصَدَه وسلَكَه..) يشير إلى اختلاف اجتهادهم، وأنّ فى كلٍّ خيرًا.
أما قاعدة (الجرح المفسّر مقدّم على التعديل) فمحلّ إعمالها الراوى لا الرواية، وإعمالها ليس مطلقًا، بل فى حين دون حين، فبعد أن يكون الجرح مفسّرًا تفسيرًا مؤثّرًا فى كلام أئمة الجرح والتعديل ينظر فيه المحدّث، فإما أخذ به، وإما لم يأخذ به، وإما أخذ به فى حال دون حال، أو رواية دون رواية حسَب ما يقتضيه اجتهاده.
هذا التمييز لم يفرّق فيه بعض الناظرين فى الأسانيد، وحكموا على الراوى وعلى روايته تبعًا له، وكثيرًا ما نرى أنهم يحاكمون المحدّث بقول غيره مستندين إلى قاعدة (الجرح المفسّر مقدّم على التعديل)، ويحكمون على الرواية وفق هذه القاعدة، مع أنّ الرواية إنما يبين المحدّثون عللها أحيانًا، ولم نجد من المحدّثين من سمَّى الكلام فى العلل جرحًا أصلا.
وقاعدة (الجرح المفسّر) إنما يراد بها بيان صفة الجرح المعتبر، وأنّ الجرح الذى يكون معتبرًا عند المحدّثين لا يكون بالكلام المجمل العارى عن التفسير والبيان.
نقل الخطيب البغدادى ت 463 هـ فى الكفاية أنّ " القاضى أبا بكر محمد بن الطيب قال: الجمهور من أهل العلم إذا جرح من لا يعرف الجرح يجب الكشف عن ذلك، ولم يوجبوا ذلك على أهل العلم بهذا الشأن.
والذى يقوى عندنا: ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالمًا، والدليل عليه نفس ما دللنا به على أنه لا يجب استفسار المعدِّل عما به صار عنده المزكَّى عدلا؛ لأننا متى استفسرنا الجارح لغيره فإنما يجب علينا بسوء الظن والاتهام له بالجهل بما يصير به المجروح مجروحًا، وذلك ينقض جملة ما بنينا عليه أمره من الرضا به، والرجوع إليه، ولا يجب كشف ما به صار مجروحًا، وإن اختلف آراء الناس فيما به يصير المجروح مجروحًا، كما لا يجب كشف ذلك فى العقود والحقوق، وإن اختلف فى كثير منها، فالطريق فى ذلك واحد، فأما إذا كان الجارح عاميًّا وجب لا محالة استفساره.
وقد ذكر أن الشافعى إنما أوجب الكشف عن ذلك لأنه بلغه أن إنسانًا جرح رجلا، فسُئِلَ عما جرحه به؟ فقال: رأيته يبول قائمًا. فقيل له: وما فى ذلك ما يوجب جرحه؟ فقال: لأنه يقع الرشش عليه وعلى ثوبه ثم يصلى. فقيل له: رأيته يصلى كذلك؟ فقال: لا. فهذا ونحوه جرح بالتأويل والجهل، والعالم لا يجرح أحدًا بهذا وأمثاله، فوجب بذلك ما قلناه " (15).
وهذا الرأى وجيه، ويؤيده أن البحث فى كتب الرجال لا يفيد أن البخارى احتجّ بعكرمة مولى ابن عباس - رضى الله عنهما - وإسماعيل بن أبى أويس، وعاصم بن على، وعمرو بن مرزوق... وأنّ مسلمًا احتجّ بسويد بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم؛ لأنّ الجرح فيهم لم يكن مفسّرًا، بل إن القارئ فى تراجمهم يجد جرحًا مفسّرًا، ويفهم من تعديل بعض الأئمة لراوٍ مجروح اختلافًا فى اجتهاد المحدّثين فى الحكم على الراوى، أو على الرواية المعيّنة التى جاءت من طريقه، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
ويشهد لهذا الفهم ما قال الزركشى ت 794 هـ نقلاً عن ابن حبّان ت 354 هـ فى خطبة صحيحه، وهو يبيّن شرطه فيه: " ومن اختلف فيه، كسماك ابن حرب، وداود بن أبى هند، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وحماد بن سلمة وأبى بكر بن عياش وأضرابهم، فمن صحّ عندى بالاعتبار أنه ثقة احتججت به، ولم أعرج على قول من قدح فيه، ومن صحّ عندى أنه غير عدل لم أحتج به، وإن وثقه بعض أئمتنا (16).
وإذا عرفنا أنّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وأنه لا يحاسب اجتهاد إمام باجتهاد إمام غيره، فمتى يلجأ المشتغل بتبيين درجة الحديث إلى قاعدة الجرح المفسّر؟
عبارة الجرح المفسّر، من الذى يحكم بها؟ ومتى؟
إن القول بأنّ الجرح المفسّر مقدّم على التعديل إنما يعمل بها فى الحكم على الرواة لا على الأسانيد، فالباحث فى كتب التراجم - وهو متأخّر عن طبقات المتكلّمين فى الجرح والتعديل إلى طبقة الناقلين عنهم، فمن بعدهم حيث وُجِدَ راوٍ مختلفٌ فيه، فكأن المعنى أن من عدّله لم يكن يدرى باطن حاله، وأن مع الجارح زيادة علم دعته لجرحه، فيقدّم قول الجارح عند الجمهور.
قال ابن الصلاح ت 643 هـ: " إذا اجتمع فى شخص جرح وتعديل، فالجرح مقدّم؛ لأنّ المعدّل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفى على المعدّل، فإن كان عدد المعدّلين أكثر؛ فقد قيل: التعديل أوْلى. والصحيح والذى عليه الجمهور: أن الجرح أوْلى؛ لما ذكرناه، والله أعلم (17).
والمقصود: أن المعاصر لم ينتبه للفرق بين القاعدتين، فكثيرًا ما حاكم الأئمة بقول بعضهم، وإنما وقع فى ذلك لبعده عن أصول الفقه، وأحكام الاجتهاد مبسوطة فيه، ومنها قاعدة (الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد).
السبب الثالث للخطإ:
هو اعتماد المعاصرين فى تكوين ملكتهم فى نقد الأحاديث على كتب المصطلح فى مباحث الأنواع والتعريفات، وكتب المصطلح موضوعة لبيان الاصطلاحات، لا لبيان طريقة الوصول إلى الحكم، وهذه الطريقة وإن كانت تستفاد معارفها نظريًا من كتب المصطلح من مباحث: العلّة، والتفرّد، وزيادة الثقة، والاعتبار والشواهد، لكنها لا تحصّل بشكل صحيح يكسب ملكة إلا عن طريق الاشتغال بكتب العلل، ودراسة تعليقات المحدّثين فى كتبهم وفى مقدّماتها، وتحليل تطبيقاتهم فى تخريجهم الأحاديث إرادة الفهم والتعلّم لا النّقض والتعالم.
ومع ذلك، وإن أهِّل لفهم كلام الأوائل فيما ذكروا علله، فإن التفرّد بمعرفة العلّة يصعب؛ لأن المخالفة وحدها لا تكون علّة، فالثقة قد يخالف فيخطئ، وقد يخالف فيصيب، والضعيف قد يخالف فيصيب أيضًا، وقد ينفرد فيصيب كذلك.
ومعرفة العلل يقوم على كثرة المحفوظ للروايات، وعلى المذاكرة والفهم والمعرفة، وهذا غائب عن إحاطة المعاصرين – كما سنعرف -.
لذلك قال د. المليبارى: " إن كثيرًا من المشتغلين بالأحاديث يتسابقون إلى تخريجها أو تحقيق مصادرها، ويقومون بتصحيحها أو تعليلها بصورة توهم أن علم الحديث أمور رياضية تقوم على حسابات خاصّة، واعتبارات محددة تقاس عليها جميع الأحاديث،... وهكذا تحوّل التصحيح والتحسين والتضعيف أمرًا سهلا يتأهل الجميع لتناوله بمجرّد التعرف على هذه الطريقة، وحفظ القواعد من كتب المصطلح... " (18).
والحقّ أن لكل حديث قرائن تَحفُّه، تُعِين المحدّث على معرفة حكمه، وليست قواعد علم المصطلح وحدها تكفى لمعرفة درجة الحديث كما قال ابن حجر ت 852 هـ – رحمه الله -: " ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذى أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون فى هذا المقام بحكم كلى يشمل القاعدة، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم فى كل حديث بمفرده، والله أعلم " (19).
السبب الرابع للخطإ: الاعتماد الكلّى فى معرفة درجة الحديث على ظاهر حال الإسناد:
قال د. المليبارى بعد كلامه على مبحث الشاذ فى كتاب ابن الصلاح – رحمه الله -: " إن هذه المسألة التى تعرّض لها ابن الصلاح من أهم قواعد التصحيح والتعليل وأغمضها وأعوصها... ولا تكون فى متناول الجميع بمجرّد حفظ المصطلحات الحديثية وتعاريفها، وقد أساء الكثيرون حين اختطفوا المسألة التى فصّلها ابن الصلاح – رحمه الله - وطبّقوها فى بحوثهم ودراساتهم، فصحّحوا الإسناد بكون رواته ثقات، وحسّنوا بوجود صدوق فيه، وضعّفوا لكون راويه ضعيفًا، وفى حالة وجود شاهد أو متابعة فيرقّون الحسن إلى الصحيح، والضعيف إلى الحسن، فدار التصحيح والتضعيف على ظواهر الإسناد وأحوال رواته، وأصبح الإسناد ورواته محلّ دراستهم - بغض النّظر عن متنه - حتى تحقق ما روّجه المستشرقون من أن دراسة المحدّثين لم تتجاوز الإسناد لشدّة اهتمامهم بالنظر الخارجى "(20).
وكلام د. المليبارى صحيح، وقد نبّه إليه السابقون، وأشار إليه أبو عبد الله الحاكم بقوله: " ذكر النوع التاسع عشر من علوم الحديث، وهو معرفة الصحيح والسقيم، وهذا النوع من هذه العلوم غير الجرح والتعديل الذى قدّمنا ذكره، فربّ إسناد يسلم من المجروحين غير مخرّج فى الصحيح " (21).
والأوائل عرفوا المتن وألفاظه ودلالاتها والاختلاف فيها ودلالة ذلك، وعمل الفقهاء بها، والبخارى فى تراجمه، والترمذى فى تعليقاته على الأحاديث، وأبو داود فى سننه، وكلّ من صنّف الحديث مهتمًا ببيان علله واختلاف طرقه، كابن أبى شيبة فى مصنّفه، إنما هو محدّث عالم باختلاف الطرق والمتون، وفقيه عالم بأقوال الفقهاء.
وكذا كل من رتّب كتابه على الأبواب الفقهية كان فقيهًا، وكان فطنًا، وكان عالمًا بمعانى المتون، وكان عالمًا باختلاف الفقهاء، فهم عرفوا الفقه، وعرفوا مع ذلك أدلته من الحديث وجمعوها للناس وللفقهاء مبينين أحيانًا عللها.
وقد كان الجمع بين الفقه والحديث سمة عصر تدوين السنة الذى كان اكتماله فى القرن الثالث الهجرى، ولم يظهر الانفصال بين علمى الحديث والفقه إلا بعد ذلك لأسباب عديدة.
قال الشريف حاتم العونى عن نشاط العلوم العقلية فى القرن الرابع الهجرى: " وهذا بدوره أفرز تلك الظاهرة الغريبة على الوسط العلمى الإسلامى، وهى ظاهرة التمايز الواضح بين الفقهاء والمحدّثين، مع أنّ الأمّة قبل ذلك لم تكن تعرف هذا التمايز الحادّ، إنما كانت تعيش وسطًا علميًا طبيعيًا سليمًا، يعترف باختلاف المواهب والقدرات، لكن مع قدر كبير من التمازج والشمول فى تلقّى العلوم الإسلامية " (22).
ومما استشهد به الشريف العونى على صحّة هذه المعلومة قول الإمام أبى سليمان الخطابى ت 388 هـ - يعنى هو من أبناء القرن الرابع الهجرى - فى كتابه (معالم السنن) كما نقله عنه الدهلوى: " رأيت أهل العلم فى زماننا قد حصلوا حزبين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها فى الحاجة، ولا تستغنى عنها فى درك ما تنحوه من البغية والإرادة؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذى هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذى هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب.
ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التدانى فى المحلين، والتقارب فى المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين.
فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الحديث والأثر، فإن الأكثرين إنما وكدهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذى أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعانى، ولا يستنبطون سرّها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون.
وأما الطبقة الأخرى، وهم أهل الفقه والنظر، فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقلّه، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبئون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التى ينتحلونها، ووافق آراءهم التى يعتقدونها.
وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم فى قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم من غير ثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك صلة من الرأى، وغبنًا فيه" (23).
والمقصود أنه فى القرن الثالث الهجرى، وهو العصر الذهبى فى تدوين السنّة النبوية؛ كان الفقه والحديث قرينيْن، وأنّ المحدّثين يعرفون الأدلّة التى استدلّ بها الفقهاء المجتهدون العارفون بأصول الاستدلال، وبما يصلح دليلاً من النصوص وما لا يصلح، وإن كان لهم نظر فى الحكم بصحّة الحديث يختلف عن نظر المحدّثين؛ لكن المحدّثين الأوائل أقرّوا لهم الاحتجاج بالحديث الذى صحّحوه، ورووه فى كتبهم وإن بدا لهم ضعف فى إسناده.
السبب الخامس من أسباب الوقوع فى الخطإ: الحكم على الحديث بالنظر إلى متنه مجرّدًا:
وهذا يكثر فى الحكم بالوضع عند المعاصرين، فقد استمرأ بعض الناس فى زماننا الحكم بالوضع استنادًا إلى وجود بعض الأمارات التى ذكرها العلماء فى الحديث الموضوع، مثل: قولهم (أن يخالف العقل أو الحسّ) ومن ثمّ ظهر ردّ لأحاديث صحيحة لعدم معقوليتها من وجهة نظر الناظر فيها.
وقد تقدّم أن السابقين قبلوا أحاديث الصفات التى رواها الثقات، ثمّ قالوا (أمرّوها كما جاءت).
وعمومًا، فإن تفصيل الكلام فى هذا السبب فى بحث مستقلّ يختصّ ببيان ضوابط الحكم بالوضع - إن شاء الله تعالى -.
السبب السادس من أسباب الوقوع فى الخطإ: جسارة المعاصرين على الاشتغال ببيان درجة الحديث الشريف:
إننا فى عصرنا قد خضنا فى أمر التصحيح والتضعيف وذكر درجة الحديث بعامة ما لم يخض فيه أحد مثلنا ممن سبق رغم أننا لسنا مثلهم فى علمهم بل إننا حتى لا ندانيهم، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
فإنّ أحد أسباب الخطإ أنا فتحنا باب نقد الحديث لكلّ أحد، حتى إننا نطالب فى جامعاتنا المبتدئ فى كلّ التخصصات الشرعية بنقد الأحاديث، بل أحيانًا يطالب به دارس الفنون الأخرى من الدراسات الإنسانية والتربوية من غير التخصصات الشرعية.
والمقصود أنه لم يخض العلماء فى عصر من العصور فى الحكم على الحديث كما فعلنا نحن فى عصرنا !
يقول أبو المظفر السمعانى ت 489 هـ: " وقد اتفق أهل الحديث على أن نقد الأحاديث مقصور على قوم مخصوصين، فما قبلوه فهو المقبول، وما ردّوه فهو المردود، وهم: أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيبانى، وأبو زكريا يحيى بن معين البغدادى، وأبو الحسن على بن عبد الله المدينى، وأبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلى، وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى، وأبو زرعة عبد الله بن عبد الكريم الرازى، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيرى، وأبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلى، وأبو داود سليمان بن الأشعث السجستانى، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمى.
ومثل هذه الطبقة:
يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدى، والثورى، وابن المبارك، وشعبة، ووكيع، وجماعة يكثر عددهم، وذكرهم علماء الأمة.
فهؤلاء وأشباههم أهل نقد الأحاديث، وصيارفة الرجال، وهم المرجوع إليهم فى هذا الفن، وإليهم انتهت رئاسة العلم فى هذا النوع، فرحم الله امرأ عرف قدر نفسه، وقدر بضاعته من العلم، فيطلب الربح على قدره " (24).
فإنّ نقد الحديث لا يقدر عليه كلّ أحد، والفرق كبير بين الحكم على الحديث، وبين نقل الحكم على الحديث، فالثانى مسموح مطلقًا، والأوّل مسموح بقيود وضوابط.
وحيث أدركنا أسباب الخطإ - أو على الأقلّ بعضًا منها - فإنا نستطيع تقديم عدّة ضوابط للمجتهد فى بيان درجة الحديث تعصم من الانزلاق فى الخطإ بإذن الله.
والضوابط التى أقدّمها فى هذا البحث ضوابط عامّة كليّة على كل مشتغل بتبيين درجة الحديث الشريف التقيّد بها.
(المبحث الثانى)
الضوابط التى ينبغى للمشتغل بتبيين درجة الحديث الشريف التقيّد بها
الضابط الأوّل - وهو الضابط المطلق فى هذا البحث -:
إن إعمال قواعد المحدّثين يكون داخل إطار من ثوابتهم المعرفية لا خارجًا عنه:
إن الاتباع فى القواعد الجزئية ينبغى أن يكون ضمن إطار الكلى الذى تنتظم تحته تلك القواعد، فإن اتباع منهج السلف الصالح من المحدثين والفقهاء يكون كلا وجزءًا، جملة وتفصيلا، ولا يكون فى شىء دون شىء.
فنحن ننادى باتباع منهج السلف فى عامّة أمرنا، وأن نرجع إلى كتبهم وقواعدهم الجزئية، وأقوالهم فى الجرح والتعديل، لكننا للأسف تركنا منهجهم الكلى العام.
والإطار الكلّى الذى على المشتغل ببيان درجة الحديث أن يتقيّد به يتكوّن من عدّة ثوابت كانت واضحة فى ذهن المشتغل بنقد الحديث قديمًا، ولم تكن بالوضوح عندنا؛ بحيث نتصرّف تلقائيًا وفقًا لها أثناء الاشتغال ببيان درجة الحديث الشريف.
وفيما يلى بيان تلك الثوابت التى ينبغى أن ينطلق منها المحدّث الذى يشتغل ببيان درجة الحديث الشريف:
هناك مجموعة من الثوابت المعرفية كانت واضحة فى ذهن المشتغل بالعلم الشرعى قديمًا، لكنها ليست واضحة بنفس القدر عند المعاصر، ولعلّ توضيحها والتركيز عليها يكون من وسائل التقليل من أخطاء المشتغلين بتبيين درجة الحديث الشريف.
وفيما يلى ذكر هذه الثوابت:
الثابت الأوّل: إنّ الحفاظ على قدسية حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وحثّ الأمة على العمل به مقصد فوق مقصد تبيين درجته:
قال العزّ بن عبد السلام ت 660 هـ – رحمه الله -: " إذا تعارضت مصلحتان وتعذّر جمعهما، فإن عُلِم رجحان إحداها قدّمت " (25). وإنّنا حسَب ظروف عصرنا ومفاهيم المتعاملين مع الحديث الشريف فيه واقعون بين مصلحتين متعارضتيْن إحداهما أرجح قطعًا.
المصلحة الأولى: هى الحفاظ على قدسيّة حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فى نفوس الناس، وحثّهم على العمل به، وأن يستمعوا لكل عالم يقول: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بعقولهم وقلوبهم وجوارحهم مسلّمين، راغبين فى العمل والامتثال.
والمصلحة الثانية: تبيين درجة الحديث الشريف.
ولقد تعارضت المصلحتان فى واقع العمل والتطبيق، فالمعاصر قلّ أن يعمل بما عرف صحّته، فكيف إذا تشكّك فيه ! وهو مع علمه نظريًا بأن الاحتجاج يكون بالضعيف فى مواضع إلاّ أنه سرعان ما تغلبه نفسه فتصرفه تمامًا عن العمل بالحديث الضعيف، وهذا خلاف ما قال العلماء.
وإذا كان الإمام أبو داود ت 275 هـ – رحمه الله - فى عصره سكت عن تبيين علل أحاديث؛ لأنه يقصر عن إدراكها نظر أهل عصره، وهم فى العلم والتقوى من هم، فما بالنا نحن نحرص على تبيين ضعف أحاديث سكت عنها المصنّفون قصدًا؟ !
إن لكل زمان حكمه، وإنّ تبيّين درجة الحديث يُقصَد به أمران:
الأوّل: حفظ الأحاديث؛ حيث مرّت عصور على المسلمين لم يسألوا فيها عن السند، فالسند بدعة حسنة أريد بها حفظ حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عن إبطال المبطلين، وقد كان، والحمد لله، وحفظت الأحاديث بانتهاء عصر التدوين، والخوف على الحديث من أن يدخل فيه ما ليس منه انتهى بانتهاء ذلك العصر.
وكان المسلم – فى ذلك الزمان - من حيث التطبيق والعمل - يأخذ من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كلّ ما سمعه مطبّقًا وعاملا به، فيعمل بالفرض وبالسنّة وبالمستحبّ وبالفضيلة، ويتّبع الخلق والسيرة وسنن العادات، ويعمل بالصحيح والحسن والضعيف، كلّ ذلك على نحو سواء ما أمكنه إلى ذلك سبيلاً.
فإذا اختلّ تطبيقه بوجه من الوجوه ميّز له الفقهاء بين ما يبطل العبادة مما تصحّ معه العبادة، وبين ما هو واجب وما هو سنّة.
وإذا تعارض الصحيح مع ما هو دونه قدّم الفقيه الصحيح على غيره.
والمقصود أن الغرض الأوّل من بيان درجة الحديث الحفاظ عليه، وقد كان.
والغرض الثانى من معرفة درجة الحديث هو معرفة صلاحية الحديث للاستدلال، كما أشار ابن أبى حاتم الرازى ت 327 هـ – رحمه الله – فى (باب بيان درجات رواة الآثار) فى قوله:
" ووجدت الألفاظ فى الجرح والتعديل على مراتب شتى، وإذا قيل للواحد (إنه ثقة، أو متقن ثبت) فهو ممن يحتج بحديثه.
وإذا قيل له: (إنه صدوق، أو محلّه الصدق، أو لا بأس به) فهو ممن يكتب حديثه، وينظر فيه، وهى المنزلة الثانية.
وإذا قيل: (شيخ) فهو بالمنزلة الثالثة، يكتب حديثه وينظر فيه، إلا أنه دون الثانية.
وإذا قيل: (صالح الحديث)، فإنه يكتب حديثه للاعتبار.
وإذا أجابوا فى الرجل بـ (لين الحديث)، فهو ممن يكتب حديثه، وينظر فيه اعتبارًا.
وإذا قالوا: (ليس بقوى) فهو بمنزلة الأولى فى كتبه حديثه إلا أنه دونه.
وإذا قالوا: (ضعيف الحديث) فهو دون الثانى لا يطرح حديثه، لكن يعتبر به.
وإذا قالوا : ( متروك الحديث ) أو ( ذاهب الحديث ) أو ( كذاب ) فهو ساقط الحديث لا يكتب حديثه ، وهى المنزلة الرابعة." (26).
وأحاديث الأحكام كلّها ذكر الفقهاء والمحدّثون درجتها إما صراحة وإما حكمًا – كما سنعرف - واستخرجوا أحكامها، وكفتنا المذاهب الفقهية الأربعة فى معرفة الأحكام المستنبطة منها، والاجتهاد فى عصرنا إنما هو تخريج الوقائع المستجدّة والنوازل على الأصول التى أصّلوها، والفروع التى بيّنوا حكمها، والقواعد المستنبطة من مجموع النّصوص.
فإذا تبيّن أنه لم تعد معرفة درجة الحديث محتاجًا إليها بمقدار الاحتياج إليها فى الزمن الأوّل عند تدوين الحديث ونشأة المذاهب الفقهية - صارت مصلحة الحفاظ على قدسية الحديث النبوى مترجّحة.
وقد ظهر فى نصوص السلف الصالح أن عنايتهم بجمع أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى مختلف الأبواب مترجحة على عنايتهم بانتقاء الأسانيد السالمة ما لم يكن موضوعًا أو منكرًا جدًا:
قال أبو عبد الله المروزى ت 294 هـ فى كلام له: "... فكيف بمن جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيره فى دين الله وأحكامه ملّتَيْنِ، ثم يؤخر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقدّمه إذا حدّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لا يوافقه قال: هذا منسوخ. فإذا حدث عنه بما لا يعرفه، قال: هذا شاذ ! فمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنسوخ، ومنه الناسخ، ثم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشاذ، ومنه المعروف، ومن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتروك، ومنه المأخوذ. " (27).
وهذا وإن كان كلام المروزى – رحمه الله - على من يرى أنه يتّبع هواه فى كلّ ذلك، لكن ما يهمّنا ما أشار إليه من أنّ كلام المحدّثين إنما يطال الإسناد بالدرجة الأولى، وأنّ المتن قد يكون صحيحًا سالما.
والمقصود بيان أنّ الحفاظ على أحاديث النبى - صلى الله عليه وسلم - مطلب معتبر عند العلماء.
قال العقيلى ت 322 هـ فى الضعفاء: "... حدثنا على قال: قلت ليحيى بن سعيد القطان: إن عبد الرحمن يقول: اترك من كان رأسًا فى البدعة يدعو إليها. قال يحيى: كيف تصنع بقتادة؟ كيف تصنع بأبى داود وعمر بن ذر؟ وعدّ يحيى قومًا، ثم قال يحيى: هذا إن ترك هذا الضرب ترك ناسًا كثيرًا " (28).
ولما تكلّم الذهبى ت 748 هـ عن أبان بن تغلب الكوفى قال: "شيعى جَلْد، لكنه صدوق، فلنا صِدْقه، وعليه بدعته ".
ثمّ قال فى النوع الأول من أنواع البدعة: " فبدعة صغرى: كغلو التشيّع، أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرّف، فهذا كثير فى التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة... " (29).
وكذلك فإنّ الإمام أحمد ت 246 هـ - رحمه الله - فى مسنده قام برعاية مصلحة الحفاظ على رواية حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعمل به: جاء فى رواية عنه أنه قال لابنه: " قصدت فى المسند الحديث المشهور، وتركت الناس تحت ستر الله - تعالى -، ولو أردت أن أقصد ما صح عندى لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء، ولكنك يا بنى تعرف طريقتى فى الحديث، لست أخالف ما ضعف إذا لم يكن فى الباب ما يدفعه " (30).
وهذا منهج الإمام أبى داود ت 275 هـ - رحمه الله - أيضًا، قال فى رسالته لأهل مكّة: "وربما كان فى الحديث ما تثبت صحة الحديث منه إذا كان يخفى ذلك على، فربما تركت الحديث إذا لم أفقهه، وربما كتبته وبينته، وربما لم أقف عليه، وربما أتوقف عن مثل هذه؛لأنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث؛ لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا " (31).
وتصرّف النسائى ت 303 هـ – رحمه الله – أيضًا يدلّ على الحرص على جمع السنن ما أمكن، كما حكاه ابن منده عن محمد بن سعد الباوردى: " كان الحافظ أبو عبد الرحمن النسائى صاحب السنن، والآتى فى الوفيات، لا يقتصر فى التخريج على المتفق عليه قبولهم، بل يخرج حديث من لم يجمعوا أئمة الحديث عليه تركًا... " (32).
ولما تكلّم ابن الصلاح ت 643 هـ - رحمه الله – عن تساهل الناس فى الرواية بالوجادة، قال: وأما جواز العمل اعتمادًا على ما يوثق به منها، فقد روينا عن بعض المالكية أن معظم المحدثين والفقهاء من المالكيين وغيرهم لا يرون العمل بذلك، وحكى عن الشافعى وطائفة من نظار أصحابه جواز العمل به.
قلت: قطع بعض المحققين من أصحابه فى أصول الفقه بوجوب العمل به عند حصول الثقة به، وقال: لو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأَبَوْهُ، وما قطع به هو الذى لا يتجه غيره فى الأعصار المتأخرة، فإنه لو توقّف العمل فيها على الرواية لانسدَّ باب العمل بالمنقول لتعذر شرط الرواية فيها على ما تقدّم فى النوع الأول، والله أعلم " (33).
وورد فى كلام القارى احتياطه فى وصف الحديث بالوضع إذا اختلفوا فيه، والموضوع شرّ أنواع الضعيف الذى لا يحلّ لأحد روايته إلا على جهة البيان كما نعرف:
قال القارى ت 1014 هـ - رحمه الله - فى مقدّمة كتابه (الأسرار المرفوعة): " ثم ما اختلفوا فى أنه موضوع تركت ذكره للحذر من الخطر لاحتمال أن يكون موضوعًا من طريق، وصحيحًا من وجه آخر، فإن هذا كلّه بحسب ما يظهر للمحدثين من حيث نظرهم إلى الإسناد (34).
نَصِلُ من كلّ هذه النصوص إلى أنّ الحفاظ على قدسيّة حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – فى عصرنا، مطلبٌ أرجح من مطلب تبيين درجة الحديث الشريف – والله أعلم -.
الثابت الثانى: الأصل فى معرفة درجة الحديث هو ما قاله المحدّثون فى حكمه:
روى الخطيب ت 463 هـ - رحمه الله - فى الكفاية بإسناده عن الأوزاعى، قال: " كنا نسمع الحديث ونعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف، فما عرفوا منه أخذناه، وما أنكروا منه تركناه.
وبإسناده عن جرير قال: " كنت إذا سمعت الحديث جئت به إلى المغيرة، فعرضته عليه، فما قال لى: ألقه. ألقيته " (35).
ولذا، فإنه – كما حكى الزركشى - رحمه الله -:
" نازع بعضهم فى تعريف الصحيح والحسن والضعيف بحدّ أو رسم، وقال: الذى يقتضيه كلام القدماء أنه لا يعرف بذلك، بل بما نصّ عليه أئمة الحديث فى تصانيفهم إما بتصريحه فى كل حديث كدأب الترمذى، أو بالتزام ذكر الصحيح كالبخارى ومسلم وابن خزيمة وابن حبان، والمستخرجات على الصحيح.." (36).
والحقّ أنّ قبول العلماء الأوائل للحديث وعمل الفقهاء به يرجّح على النتيجة الأخيرة التى يصل إليها المحدّث عند تطبيق قواعد المحدّثين لمعرفة درجة الحديث:
فالأصل فى معرفة درجة الحديث سؤال أهل الذكر، ومهما قالوا، فهم أعلم وأدرى، وإن بدا للمجتهد أن ظاهر الإسناد يدلّ على غير ما قالوه.
وتقديم كلام العلماء الأوائل على ما يظهر للمجتهد من حكم الحديث هو منهج نقله السيوطى عن بعضهم، وهو منهج ابن عبد البرّ أيضًا، ومنهج الفقهاء منهم ابن الحصّار الأندلسى – رحمهم الله جميعًا -:
جاء فى شرح تقريب النواوى: " قال بعضهم: يحكم للحديث بالصّحة إذا تلقّاه الناس بالقبول، وإن لم يكن له إسناد صحيح.
قال ابن عبد البر فى الاستذكار لما حكى عن الترمذى أن البخارى صحّح حديث (الْبَحْرُ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ) وأهل الحديث لا يصحّحون مثل إسناده؛ لكن الحديث عندى صحيح؛ لأن العلماء تلقوه بالقبول.
وقال فى التمهيد: روى جابر عن النبى - صلى الله عليه وسلم – (الدِّينَارُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا) قال: وفى قول جماعة العلماء: وإجماع الناس على معناه غنى عن الإسناد فيه.
وقال الأستاذ أبو إسحق الإسفراينى: تعرف صحّة الحديث إذا اشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم.
وقال نحوه ابن فورك وزاد بأن مثَّل ذلك بحديث: (فى الرّقة رُبُعُ الْعُشْرِ، وفِى مِائَتَىْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ).
وقال أبو الحسن بن الحصار فى تقريب المدارك على موطإ مالك: قد يعلم الفقيه صحة الحديث إذا لم يكن فى سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله، أو بعض أصول الشريعة، فيحمله ذلك على قبوله، والعمل به " (37).
فإذا كانت دراسة إسناد الحديث إنما يقصد بها العمل به، فإذا ثبت أن المحدّثين والفقهاء عملوا بحديث (ما)، فإن الحكم بضعفه لا طائل وراءه سوى تشكيك العامة، وهذا لا يجوز.
وهذا المنهج مضطرد؛ سواء فى الموازنة بين الاحتجاج بالحديث عند الفقهاء المتقدّمين وبين درجة الحديث التى ذكرها المحدّثون، وهى موازنة بين فعل الفقهاء وحكم المحدّثين.
أو فى الموازنة بين حكم الأئمة الكبار من المحدّثين، وبين أحكام المتأخرين من المحدّثين أيضًا. فالمعوّل الأساسى فى معرفة درجة الحديث فى حديث نصّ الأوائل على حكمه إنما هو نصوص الأئمة الكبار، وليس دراسة الإسناد.
ولا يناقض هذا الثابت تعقّب العلماء المتأخرين كالذهبى ت 748 هـ – رحمه الله – على حديث فى الصحيح، ونحو ذلك، فإنّ الراجح – من وجهة نظرى – هو فعل المتقدّم أبدًا ما دام أقرانه وأهل عصره قبلوا قوله.
وإنما يظنّ من يظنّ رجاحة كلام المتأخّرين؛ لأنهم يفصحون عن أسباب حكمهم، ويفسّرون كلامهم بما يقنع القارئ من أمور يمكن للمتأخّر إدراكها بدراسة ظاهر السند، والمتقدّم ذكر حكمًا، ولم يفسّره، ولم يذكر سببه للقارئ واضحًا، فلمّا لم يقف المعاصر على أسباب حكمه ظنّ عدمها، وذلك غفلة منه، وهو لم يصب فى هذا الظنّ، وكيف يمكن أن البخارى – رحمه الله – غفل عن حديث المعازف أو غيره، وهو إلى جانب ما التزمه من شروط ظاهرة يقيس عليها الحديث ليضعه فى كتابه، كان يصلّى ركعتين يستخير فيهما الله – تعالى– فى كلّ حديث وضعه فى كتابه !
فغاية الأمر أن البخارى ت 256 هـ – رحمه الله – اجتهد فى إلحاق الحديث بالصحيح، والمتأخّر اجتهد فى إخراجه منه، واجتهاد البخارى – رحمه الله - مقدّم على اجتهاد غيره بلا شك.
يقول الشريف حاتم العونى فى كلام له قريب من هذا المعنى: " وأذكر هنا ما يقوم به غالب الدارسين فى مرحلتى (الماجستير)، و(الدكتوراه) من موازنة أقوال إمام فى الجرح والتعديل من أهل الاصطلاح مثل: (شعبة بن الحجاج) بأقوال الحافظ ابن حجر فى (التقريب) مثلاً، فلا أدرى ! ولست إخال أدرى ! كيف انطلى هذا المنهج (الذى لا ينطوى على منهج) على المجالس العلمية والأساتذة الأكاديميين فى جامعاتنا الإسلامية؟!! فهل المنهج بين الإمامين واحد؟! وهل مصطلحهما واحد؟! وهل مصادر العلم، وموارد المعرفة بين الإمامين، وبين العصرين واحدة أيضًا؟! ثمّ هل فهمنا – قطعًا – كل مصطلحات الحافظ؟ حتى نقيس عليها !! ثمّ هل يصحّ أن نجعل اجتهاد الحافظ مقياسًا فى الخطإ والصواب لعلم شعبة؟ مع ذلك الفارق الكبير والبون الشاسع بين الرجلين: فى العصر، والاصطلاح، بل العلم أيضًا !!! " (38). وقال أيضًا: "نسمع ونقرأ لمن ينتقد مثلاً أحاديث فى الصحيحين؛ لأنها معنعنات بعض مشاهير المدلسين !!! فنقول لهذا المسكين، أو العالم المخطئ: عَلامَ اعتمدت فى انتقادك لعنعنة المدلّس؟ أوليس على قواعد مبثوثة فى كتب علوم الحديث؟! ثمّ أوليست تلك القواعد إنما استنبطت من تطبيقات أئمة الحديث ونقّاده فى قرونه السوالف؟! فإذا وجدنا أن تلك القواعد منتقِضَة، أو منتقِض بعضها بمثل صريح تصرّف صاحبَىِ الصحيح؛ فكيف تنتقد بالمنتَقَد؟! وتبنى على قاعدة منسوفة؟!" (39).
وتحريًا لإنصاف علمائنا الأجلاء الذين كتبوا قواعد مصطلح الحديث أقول والله أعلم:
إن كتب المصطلح تعطى القواعد العامة المستنبطة من القدر الأعظم من تصرّفات المحدّثين، وذكر تلك القواعد فى كتب المصطلح مناسب لغرضهم من تأليف تلك الكتب، وهو تقريب علوم الحديث من فهم طلبة العلم، ولا يمنع ذلك وجود تطبيقات للمحدّثين لا تنسف القاعدة بقدر ما تنسف القطع بتعميمها، بل تبقى القاعدة، وتبقى استثناءاتها قاعدة بنفسها؛ إذ كلّه مأخوذ من أقوال المحدّثين الأوائل وتطبيقاتهم، ولا يتوجّه للمصنّفين فى علم المصطلح لوم ما داموا لم يدّعوا قطعية تلك القواعد وشمولها كافة أفرادها بغير استثناء، بل فى عباراتهم فى مباحث العلّة وزيادة الثقة.. وغيرها إشارات إلى وجود الاستثناء، وأن الحجّة فى فهم المحدّث ومعرفته لا غير.
الثابت الثالث: الأصل فى الأحاديث التى رواها الأئمة الكبار أن معظمها صالح للاحتجاج به، والباقى صالح للعمل:
تقدّمت الإشارة إلى أنّ الفقهاء الأوائل ظهروا قبل المحدّثين، وأن ثلاثة من أئمة المذاهب الأربعة ماتوا قبل أن يطلب العلمَ الإمامُ البخارى أوّل من صنّف فى الصحيح –رحمه الله -.
والحديث الذى يستدلّ به الفقهاء يرتبط به أمران: الاحتجاج والعمل.
بينما الحديث الذى يرويه المحدّثون أعمّ من ذلك؛ إذ من الأحاديث ما يروى ولا يعمل به، كأن يكون منسوخًا، أو مخالفًا لما هو أرجح منه، أو ضعيفًا ضعفًا لا ينجبر.. إلخ.
ولكن متى صنّف المحدّث كتابه على أبواب الفقه، فهو يريد الحديث الصالح للاحتجاج أو العمل، ولو رواه وهو غير صالح للأمرين جميعًا لقَرَن روايته بالبيان.
قال النووى ت 676 هـ - رحمه الله - فى خلاصة الأحكام: " واعلم أن سنن أبى داود والترمذى والنسائى فيها الصحيح والضعيف، لكن ضعفها يسير، ولهذا قال الأئمة: أصول الإسلام من كتب الحديث خمسة: الصحيحان، وهذه الثلاثة، ولا يخرج عن هذه الخمسة من الصحيح والحسن إلا قليل، وقد صرّح الترمذى فى أكثر كتبه ببيان الصحيح، والحسن، والضعيف، وأهمل بيان جمل منه.
وقال أبو داود: " جمعت فى كتابى هذا الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه ضعف شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض ". هذا لفظه، ومقتضاه أن ما أطلقه أبو داود فهو صحيح أو حسن يحتج به، إلا أن يظهر فيه ما يقتضى ضعفه. " (40).
وذكر النووى – رحمه الله – فى مقابل ذلك حكم المسانيد، قال فى الإرشاد: "... لا تلحق بالكتب الخمسة، وهى الصحيحان، وسنن أبى داود والترمذى والنسائى وما جرى مجراها فى الاحتجاج به، والركون إلى ما فيها؛ لأن عادتهم فى هذه المسانيد أن يخرجوا فى مسند كل صحابى ما رواه من حديثه صحيحًا كان أو ضعيفًا، ولا يعتنون فيها بالصحيح بخلاف أصحاب الكتب المصنّفة على الأبواب، والله أعلم " (41).
وعمومًا، فإنّ ما ذكره الإمام النووى – رحمه الله – من حكم هو الحكم العام، لكن المسانيد التى يجمع فيها المصنّف مرويات الصحابة – رضوان الله عليهم – إذا ظهر لصاحبها شرط فيها، أو دعوة إلى اعتماده فى العمل، ارتفع حديثه إلى كونه صالحًا للاحتجاج أو العمل، وليس للرواية فقط.
قال الإمام أحمد ت 246 هـ عن مسنده: "عملت هذا الكتاب إمامًا إذا اختلف الناس فى سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجعوا إليه " (42).
قال ابن الملقن ت 804 هـ عن مسند الإمام أحمد" قَالَ أبو موسى: ومن الدليل على أنَّ ما أودعه مسنده قد احتاط فيه إسنادًا ومتنًا، ولم يوردْ فيه إلَّا ما صحَّ عنده، ضَرْبُه على أحاديث رجال ترك الرواية عنهم، روى عنهم فى غير (المسند)" (43).
والمقصود: أن من صنّف كتابه على أبواب الفقه، أو ظهر منه قصد جمع أدلّة صالحة للاحتجاج والعمل، فتتبع أحاديث هذا النوع من المصنّفات لنقدها وتبيين درجتها غيرُ صحيح، وإنّ السلف من النقّاد والمحدّثين والفقهاء تلقّوا مصنّفات هؤلاء الأئمة وغيرهم بالقبول جملة، والأصل فى تفصيلاتها القبول لا الرّد إلاّ ما يستثنى.
وما استثنى قليل بالنسبة إلى جملتها، وقد بيّنه السابقون أتمّ بيان فى شروحهم على تلك المصنّفات. وسوف نعرف فى بحث يختصّ بضوابط الحكم بالضعف أن الضعيف الذى فى مصنّفات الأئمة عمل به بعض الفقهاء مع ضعفه.
الثابت الرابع: حكم المحدّث على الحديث يكون إمّا صريحًا وإمّا حُكمًا، وكلاهما لا يجوز للمعاصر مخالفته:
المحدّث إمّا يذكر حكمه على الحديث صريحًا أو حكمًا.
فأمّا ذكره الحكم صراحة فأن يقول: إنّ هذا الحديث حسن أو صحيح... وصنيع الترمذى فى جامعه مثال واضح على هذا.
وأمّا ذكر المحدّث الحكم حُكمًا فروايته للحديث فى مصنّف يقصد به جمع أدلّة الأحكام، أو ذكر فيه شرطه الذى أدناه جمع الأحاديث التى لم يجمع على تركها، أو يقصد بتصنيفه الحثّ والترغيب، كالمصنّفات فى الزهد والأدب... وهذه الرواية تدلّ فى أدنى صورها على صلاحية الحديث للعمل به ما لم يذكر المحدّث علّة للحديث (44).
ورواية الحديث على الوصف المذكور، المراعى فيه شرط المصنّف أو قصده من التصنيف مع عدم بيانه علّة للحديث، تعدّ تعديلا للرواية ولو فى أدنى مراتب التعديل، وهو أن يكون الحديث صالحًا للعمل به ولو عند فقيه واحد.
ولهذا المعنى نظير فى كلام الأصوليين، قال أبو المعالى الجوينى ت 478 هـ – رحمه الله - فى التلخيص: " العدل الثقة إذا روى عن إنسان خبرًا فروايته لا تكون تعديلا منه للذى روى عنه، هذا ما صار إليه الأكثرون... اللهم أن يقول العدل: اعلموا أنى لا أروى إلا عن موثوق به. فإذا صدر منه مثل هذا القول فتكون روايته تعديلا (45).
وهذا فى معنى أن يشترط المحدّث أن ما فى كتابه محتج به، صحيحًا كان أو حسنًا، أو ضعيفًا معمولا به، فهذا التصريح أو الاشتراط مثل قول الراوى فيمن يروى عنه: لا أروى إلا عن ثقة. إلا أن هذا فى الراوى، والأوّل فى الرواية التى تكون محتجًّا بها، سواء كانت صحيحة أو لا، والمهم أنها محتج بها، أو فى أقلّ الأحوال: أنه يعمل بها.
فأما الشديد الضعف الذى لا يَصلحُ العملُ به بحال والموضوع فممنوع وجوده فى هذا النوع من المصنّفات، التى ارتفع قصد مصنّفها عن الجمع المطلق للأحاديث، وقصدوا جمع أدلّة الأحكام، أو قصدوا الحثّ والترغيب، أو جمع أدلّة باب بعينه، فلا يجوز وجود المتروك أو الموضوع فيها بحال إلا على جهة البيان، وذلك لأنه لم يُرِد هؤلاء الأئمة بجمع هذه الأحاديث تضليل المسلمين، وحثّهم على فعل أعمال لم تثبت، أو لم يعمل بها الفقهاء، أو لا يصلح العمل بها مطلقًا.
ولم يكونوا بالجهل إلى الدرجة التى لا يميّزون فيها بين الموضوع من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وغيره، أو حتى بين الصحيح والضعيف، بحيث يروون حديثًا موضوعًا يحسبونه صحيحًا، أو حديثًا ضعيفًا يحسبونه صالحًا، بل كانوا يعرفون الرواة، فقد عاشوا معهم فى زمانهم أو قريبًا منه، وأخذوا عنهم، وسمعوا منهم.
فلا يبقى إلا أن يغفُلوا أو يَهِمُوا، والغفلة والوهم أعراض تنال البشر كافة إلا من ثبتت له العصمة، لكن وصفهم بالإمامة فى الحديث يشهد لمنتهى الإتقان فى الضبط، وحتى إن غفلوا على سبيل وقوع النادر، فما غفلوا عنه قد بيّن فى أزمانهم، أو أزمان مقاربة من زمانهم.
فما تبيّن فيه غفلة أو وهم بالدليل، ولم يتعقّبه متعقّب، سلم، وإلا فلا يمكن لمعاصر أن يصل إلى مخالفة لما فى كتب الأوائل منفردًا على جهة البداءة، لا على جهة الترجيح بين أقوال النقّاد.
وذلك لأنه يمتنع أن يغفل الأئمة الكبار فى جيل تلو جيل عن تبيين غفلة أو وهم وقع فيه إمام توارد الحفّاظ على العناية بمصنّفه لأجيال، ثم يأتى معاصر ويتنبّه لما غفلوا عنه مجتمعين.
وهذه قاعدة أصولية تخرّج على ما ذكره الأصوليون فى مباحث الإجماع السكوتى، أو مسألة (اختلاف أهل العصر فى مسألة على قولين، هل يجوز لمن بعدهما إحداث قول ثالث؟).
فكون المحدّثين من كلّ الطبقات تركوا التعقّب على حديث مسكوت عنه فى مصنّف مشهور بمثابة الإجماع السكوتى على صحّته، ومثل هذا لا تسوغ مخالفته فضلاً عن مخالفة حكمهم فى نصّ صريح لم يتعقّبه أحد، فيبقى عمل المعاصر دائرًا بين الترجيح بين الأقوال دون الإتيان بجديد فيها.
قال الغزالى ت 505 هـ – رحمه الله - فى باب (فيما يكون خرقًا للإجماع): "... فذهولهم عن الحق على ممر الأيام مع كثرتهم محال، ولكن لا بد من طول الزمان، وليكن أطول مما يعتبر فى الإجماع على قول واحد. " (46)
فهذه قواعد أصولية عامّة حاكمة على المجتهد بعامّة، ولو كان اجتهاده فى تبيين درجة الحديث الشريف.
وهذه القاعدة صرّح بالعمل بها أبو بكر الخطيب – رحمه الله – وهو محدّث وفقيه -:
قال: " قلت: قصد أبو حاتم إلى تسمية هؤلاء؛ لأنهم كانوا مشهورين من أئمة أهل الأثر فى أعصارهم، ولهم نظراء كثيرون من أهل كل عصر أولو نظر واجتهاد، فما أجمعوا عليه فهو الحجّة، ويسقط الاجتهاد مع إجماعهم. فكذلك إذا اختلفوا على قولين لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، وسنوضح هذا فيما بعد إن شاء الله " (47).
وفى الفقه الحنفى ما هو قريب من هذا، قال السرخسى ت 490 هـ – رحمه الله - عن رواية الصحابى غير المشهور الذى روى الحديث والحديثين، وروى الناس عنه، أو سكتوا عن روايته بعدما اشتهرت عندهم، قال: " أما من قبل السلف منه روايته فهو بمنزلة المشهورين فى الرواية؛ لأنهم ما كانوا متهمين بالتقصير فى أمر الدين، وما كانوا يقبلون الحديث حتى يصحّ عندهم أنه يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... إلى أن قال: " وكذلك إن سكتوا عن الرَّد بعد ما اشتهر روايته عندهم؛ لأن السكوت بعد تحقق الحاجة لا يحلّ إلا على وجه الرضا بالمسموع، فكان سكوتهم عن الرَّد دليل التقرير، بمنزلة ما لو قبلوه، وردّوا عنه. وكذلك، ما اختلفوا فى قبوله وروايته عنه عندنا؛ لأنه حين قبله بعض الفقهاء المشهورين منهم فكأنه روى ذلك بنفسه (48).
أمّا ما اشتهر من تعقّبات المحدّثين من المتأخرين – على فرض صحّة حكمهم - نحو ما تعقّبوا به الحاكم والبغوى والبيهقى – رحمهم الله - فلفهمه على نحو لا يتناقض مع ما تقدّم طريقتان:
الأولى: أن فعل المتأخرين ذلك يكون من قبيل: تنزيل أحاديث كتابه على الاصطلاح المشهور المستقرّ، وليس نقضًا لاجتهاده فيه. فحسَب ما أشار د. المليبارى فإن الاصطلاحات فى عصر المتقدّمين كانت واسعة، وأطلقوا الحسن والصحيح، كلا منهما فى معنى الآخر، بل كذلك أطلقوهما على حديث ضعف إسناده، لكنه ثبت متنه عندهم (49)، فحسب ذلك لا يكون التعقّب حقيقيًا؛ لأن إلزامهم بشروط بعضهم غير صحيح، وإنما الذى حصل هو تنزيل أحكامهم على الاصطلاح الذى استقرّت عليه تعريفات أنواع الحديث حسب اجتهاد أئمة المصطلح فى دراستهم لمجموع تصرّفات المحدّثين، والله أعلم.
الثانية: أن يستثنى من القاعدة ما اشتهر تعقّبه من مصنّفات الحديث بإقرار من الأئمة النقّاد، فإنّ جعل الحكم عامًا ومطبّقًا على الأئمة الكبار كلّهم بدون تمييز خطأ مطلق بلا شك، وكذلك أن يوصف إمام مثل الحاكم وابن حبّان بالتساهل فى رواية الموضوع خطأ أيضًا بلا شك كما سنعرف وهذا على فرض التسليم بأنهما تساهلا فى التصحيح والتوثيق كما قيل وهو غير مسلّم (50).
الثابت الخامس: إنّ الحكم على الراوى فى كتب التراجم حكم عامّ عليه، ورواية حديثه للاحتجاج حكم خاصّ يخصّ رواية بعينها، والخاصّ يقدّم على العام إذا تعارضا عند جمهور الأصوليين والفقهاء:
إن الأئمة الكبار الذين ذكروا الحكم العام على الراوى فى كتب الرجال رووا عن بعض من ضعّفوهم فى كتب الحديث. و أصحاب المصنّفات فـى الحديث مثل: الإمام أحمد والترمذى والنسائى وابن خزيمة والحاكم وابن حبّان هم أنفسهم النقّاد والأعلام فى معرفة الرجـال والجرح والتعديل، الذين ذكرهم الذهبى فى مقدّمة ميزان الاعتدال (51)، وعـن أقوالهم عُرِفت أحوال الرجال.
قال الذهبى ت 748 هـ " ولأبى حاتم بن حبان كتاب كبير عندى فى ذلك،... وكتاب أبى محمد بن أبى حاتم فى الجرح والتعديل، والضعفاء للدارقطنى، والضعفاء للحاكم، وغير ذلك " (52). وأريد أن أصل إلى: أنّ الحكم الذى انتهى إليه المحدّثون الذين جرحوا أو عدّلوا راويًا أمينًا من جهة ضبطه إنما هو ناتج عن معرفة شمولية بروايات ذلك الراوى مع مقارنة بروايات غيره فى الباب الواحد، ثمّ فى مختلف الأبواب، فالمخالفة، ثم كثرة المخالفة، ثم نوع المخالفة، إن كانت لمن هو أوثق، أو كانت مخالفة لمن هو مثله، كلّ ذلك له أثره فى حكم المحدّث على الراوى.
فإنّ علماء الجرح والتعديل فى رحلتهم للحكم على الراوى إنما هم يسبرون روايات الراوى، ويقارنون الطرق لكل حديث، فيصلون إلى حكم عام على ضبطه، وهو باعتبار الأغلب من حال رواياته، ولا يمنع هذا أن يكون له روايات سالمة صحيحة رغم أن فى ضبطه كلامًا، حتى من يكثر خطؤه أو يغلب ضعفه، وهو الذى يسمّى حديثه منكرًا، لا يبعد أن تكون له روايات سالمة، وهذا قد يقع عند من ضعّفه العلماء من جهة حفظه، وأيضًا عند من ضعفوه من جهة عدالته.
لذا روى ابن رجب الحنبلى ت 795 هـ: عن " يعلى بن عبيد قال: قال لنا سفيان الثورى: اتقوا الكلبى. قال: فقيل له: فإنك تروى عنه؟ ! قال: أنا أعرف صدقه من كذبه " (53).
وعلى ذلك يكون الحكم العام على الراوى الموجود فى كتب الرّجال ليس حكمًا على روايته لحديث بعينه لعلّه أتقن فيه الضبط، فربّ حديث ضعيف إسنادًا، صحيح متنًا.
ويكون ما رواه الأئمة من أحاديث وصفوها بالصحّة أو فى مصنّف جمعوا فيه أدلّة الأحكام الصالحة من طريق الراوى الضعيف قد أدّى نظرهم فيه إلى إثبات روايته لقرائن ومرجّحات، لعلّ منها: صحّة معناه عندهم، أو: شهرته بين الناس، أو: موافقته عمل الصحابة أو الفقهاء مما يدلّ على أن له أصلاً، أو: لكونه فى الفضائل، والراوى غير متّهم فى عدالته.
ومن كان غاية فى الغفلة لا يبعد أن يضبط النقل فى بعض ما ينقله أو يرويه.
ولو افترضنا أن ضعف الراوى أمارة على خطئه فى روايته لا دليل؛ وأن روايته قد تكون صحيحة ولو ضعف الإسناد، لصارت رواية الإمام لها - وهو عدل - فى محلّ الاحتجاج دون ذكر ضعفها، تشير إلى وجود مرجّحات لديه ترجّح بسببها رواية الحديث فى نظره، ولو كان الراوى ضعيفًا.
فالحكم العام فى كتب الرّجال ليس بالضرورة أن تخضع له الأحاديث، بمعنى: أن الراوى الضعيف من الممكن أن يروى حديثًا صحيحًا، والمحدّث الذى روى عنه يعرف أن هذا الحديث الذى يرويه صحيح، فتنزيل الأحكام العامة على الرجال المترجم لهم فى تقريب الحافظ ابن حجر – رحمه الله - أو غيره فى الحكم على إسناد حديث بعينه ليس صوابًا دائمًا.
واستشهاد الإمام بالحديث دون بيان – وهو لا يستحلّ رواية الموضوع – معناه: أنه يرى الحديث صالحًا سواء للاحتجاج أو الاعتبار أو العمل فى أدنى الأحوال. وحكمه هذا على حديث بخصوصه، وأئمة الجرح والتعديل حكمهم على الراوى حكمًا عامًا يشمل مجمل أحاديثه، فنكون بذلك أمام عام يعارضه خاص، فيقدّم الخاص عليه فى خصوصه.
وتخريجه على مسائل أصول الفقه يكون على قول الجوينى فى تعارض العام والخاص من كلام الشارع " وإن كان أحدهما عامًا والآخر خاصًا، فيخصص العام بالخاص وإن كان أحدهما عامًا من وجه، وخاصًا من وجه، فيخصّ عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر " (54).
وما أريد أن أصل إليه: هو أنّ رواية المحدّث فى كتابه مقدّمة على قوله المنقول عنه فى كتب الجرح والتعديل؛ لأن قوله عام عن حال الراوى، وروايته خاصّة بمتن بعينه، وذلك فى شأن روايته حديثًا على سبيل الاحتجاج به فى كتاب قصد به جمع أدلة الأبواب الفقهية، ثم هو لم يتعقّبه ببيان، وليس هو من الأحاديث التى قبل فيها العلماء الحديث الضعيف.
والسبب ما تقدّم: وهو أن الحكم على الراوى ليس هو الحكم على روايته، فيبقى عندنا تعارض بين الجرح العام، ولو كان مفسّرًا تفسيرًا مؤثّرًا، وهذا محلّه الراوى، وبين التعديل الخاص، وهذا محلّه الرواية.
وإذا أردنا الإنصاف لحملنا كل حكم على متعلّقه.
الثابت السادس: التعقّب على المحدّثين يعتمد على اختلاف الرؤى، وهو لا ينضبط، ولم يسلم من التعقبات إلا اليسير:
لقد أثبت تعقّب الأئمة الكبار خطأ المتعقب غالبًا، وقد أخطأ ابن الجوزى – رحمه الله - فى سائر ما حكم بوضعه من مسند الإمام أحمد – رضى الله عنه – وفى كثير غيره، كما بيّنه الإمام ابن حجر ت 852 هـ فيما حكى السخاوى ت 902 هـ – رحمهم الله – عنه حيث قال: " وحقّق كما سمعته منه نفى الوضع عن جميع أحاديثه " (55).
ولما ذكر ابن الملقّن ت 804 هـ صحيح البخارى قال: " وأما زَعْم أبى محمد بن حزم الظاهرى أن فيه حديثًا موضوعًا... فلا يُقبل منه، وقد أجاب عن ذَلِكَ ابن طاهر المقدسى فى جزء مفرد (56).
ثمّ لمّا ذكر صحيح مسلم وأثنى عليه قال: " قُلْتُ: وأما زَعْم أبى محمد الظاهرى أيضًا أن فيه حديثًا موضوعًا... فلا يقبل منه، وقد أجاب عنه الأئمة بأجوبة، نذكرها - إن شاء الله... " (57).
وربما يروى المحدّث الحديث الضعيف قصدًا لما يعلم من صحّته من طرق أخرى، إلا أنه يذكر الطريق الضعيف فى كتابه طلبًا لعلو الإسناد أو لغرض آخر، فيأتى المتأخّر ويعقّب على المتقدّم، والأصل فى منهج المتقدّمين النظر الكلى الشمولى فى الحكم على الحديث مراعين الإسناد وحال رجاله فى خصوص تلك الرواية، وما يحتفّ بها من قرائن تشهد لصحّتها أو ضعفها، وسواء كان الراوى ثقة أو ضعيفًا.
وقد كتب الدكتور حمزة المليبارى كتابًا عنوانه (الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين فى تصحيح الأحاديث وتعليلها) ذكر فيه أمثلة تطبيقية تبيّن الفرق بين منهجى المتقدّمين والمتأخرين من خلال أحاديث أعلّها المتقدّمون وصححّها المتأخرون، ويظهر فى جميعها اختلاف واضح فى المنهج، يعتنى فيه المتأخرون ببعض القواعد المتلقّاة عن الأوائل، وأغلبها اعتبار حال رجال الإسناد، ووجود المتابعات والشواهد، واعتبار القبول المطلق لزيادة الثقات، وهذه قواعد عامة؛ فإن قبول زيادة الثقة هو الأصل، كما أن تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد هو الأصل، لكن شمول هذا الأصل لكل الأحاديث غير صحيح، فهذا الأصل ليس قاعدة عامة مطلقة، بل ملاحظة القرائن والملابسات لورود تلك الزيادة مهم أيضًا، ومُراعًى عند المتقدّمين.
فالمتقدّمون اعتمدوا منهجًا أكثر دقّة حين اعتبروا فى كلّ حديث قواعد تليق به، فالثقة لو زاد لفظًا فى حديث رواه عن شيخه من هم أكثر صلة به وملازمة له تكون روايته محلّ نظر، فرواية الثقة عن شيخه ما لم يروه أقرانه عن شيخه، وما ليس معروفًا فى رواية أقران شيخه عن شيخ شيخه، أو خالفتها فتوى الصحابى راوى الحديث الذى أسند الحديث من طريقه من المنطقى ألا تكون مقبولة مطلقًا، والمتابعة إن تولّدت عن مصدر الوهم نفسه لا تكون معتبرة فى تقوية الرواية، وهكذا فإن العلّة يدركها المحدثون بسعة معلومهم ومحفوظهم من الروايات مع ملاحظة ما يخالف ذلك، فيكون لديهم حس وشعور بخطإ أو وهم فى موضع لا يظهر لغيرهم لقرائن وملابسات ظهرت لهم لا تنضبط كليًّا بما ذكره علماء المصطلح من قواعد، وإن كانت أغلبية عامة.
قال ابن حجر ت 852 هـ فى النكت "ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذى أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون فى هذا المقام بحكم كلى يشمل القاعدة، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم فى كل حديث بمفرده " (58).
والمتأخرون ليس لديهم هذا المحفوظ للمرويات من رواية كل راوٍ، ورواية من روى عنه، والاختلاف عليه فيها، ثمّ للأحاديث والروايات فى الباب، والعلم بفقه الحديث، ومن قال به من الصحابة والتابعين، ثمّ الأئمة الفقهاء، إضافة إلى أن عندهم قواعد عامة هى أحكام أغلبية فى بعضها، وهى مشتقة أساسًا من مجموع أحكام الأوائل لتيسير فهم كلامهم وتصرّفهم، فاستعمالها فى محاكمة الأوائل بالتعقّب على أقوالهم ليس هو المنهج السليم.
وعمومًا فإنّ القارئ لكلام المتقدّمين والمتأخرين حول تلك الأحاديث يصل إلى النتيجة التى وصل إليها الدكتور المليبارى فى قوله: " إن العقل المجرّب فى مجال ما غير الحديث والرواية لا يكون متأهلاً لمزاحمة صفوف النقاد أصحاب العقول المجربة فى الحديث وعلومه، وإلا ستكون العواقب خطيرة؛ حيث تؤدى إلى طمس معالم النقد عند المحدثين النقّاد تدريجيًا، وينسب إلى النبى – صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله
وبما أن الفقهاء المتأخرين أئمة فى مجال الفقه دون نزاع (59) فلا يعنى ذلك أنهم أئمة فى الحديث يملكون منهجًا فى التصحيح والتضعيف يوازى منهج المحدّثين النّقاد الأوائل فى ذلك، بحيث يسمح للاحقين بحرّية الاختيار بينهما، كلا، ثمّ كلا، فلكل علم أسرار وخصائص ومصطلحات لا يعرفها إلا أصحابه المجرّبون فى ذلك العلم " (60).
وقال أيضًا – وأوافقه عليه –: "... إن نقّاد الحديث القدامى هم المرجعية الوحيدة فى معرفة صحّة الحديث وخطئه، لكونهم أهل التخصص وأصحاب ملكة، وأرباب ذوق فى الحديث، وقد أقرّ بذلك الفقهاء المتأخرون أنفسهم، ولم تكن هذه الملكة الحديثية المكتسبة من خلال الممارسة والمعايشة والاحتكاك بالحديث رواية ودراية موضع منازعة الآخرين، ولذا لن يكون من الإنصاف العلمى أن ندمج فى سلك النقاد الأوائل من ليس منهم، وإن كان إمامًا بارعًا ومحترمًا فى مجالات أخرى، ولا أن يقال: إن لكل إمام منهجًا خاصًا فى التصحيح والتضعيف، ولنا حرّية الاختيار فيما بينهم." (61).
ويقول العلامة محمد أنور شاه الكشميرى – رحمه الله تعالى – فى هذا المعنى: " وليعلم أن تحسين المتأخرين وتصحيحهم لا يوازى تحسين المتقدمين، فإنهم كانوا أعرف بحال الرواة لقرب عهدهم بهم، فكانوا يحكمون ما يحكمون به بعد تثبّت تام، ومعرفة جزئية.
أما المتأخرون فليس عندهم من أمرهم غير الأثر بعد العين، فلا يحكمون إلا بعد مطالعة أحوالهم فى الأوراق، وأنت تعلم أنه كم من فرق بين المجرّب والحكيم، وما يغنى السواد الذى فى البياض عند المتأخرين عما عند المتقدمين من العلم على أحوالهم كالعيان، فإنهم أدركوا الرواة بأنفسهم، فاستغنوا عن التساؤل، والأخذ عن أفواه الناس، فهؤلاء أعرف الناس، فبهم العبرة.
وحينئذ إن وجدت النووى مثلاً يتكلّم فى حديث، والترمذى يحسّنه، فعليك بما ذهب إليه الترمذى، ولم يُحسِن الحافظ فى عدم قبول تحسين الترمذى، فإنّ مبناه على القواعد لا غير، وحكم الترمذى يبنى على الذوق والوجدان الصحيح، وإنّ هذا هو العلم، وإنما الضوابط عصا الأعمى " (62).
قال السيد محمود سعيد ممدوح بعد نقله النصّ السابق: " وقال الإمام النووى نفسه فى كتابه (الترخيص بالقيام لذوى الفضل والمزية من أهل الإسلام) بعد ذكر إسناد فيه مدلّس لم يصرّح بالسماع، وصححه الترمذى، قال: " والجواب... أن الإمام أبا عيسى الترمذى المجمع على حفظه وإمامته وتحقيقه وعنايته وتمكنه فى هذا الفن وسيادته، قد نصّ على صحّته، فلا التفات إلى اعتراض من لا يلتحق به فى معرفته، ولا يقاربه فى منزلته " (63).
نصل إلى أن الراجح هو كلام المحدثين الأوائل الذين رووا لنا الحديث بإسناده أصحاب الدواوين فى السنة النبوية – على صاحبها أفضل الصلاة والسلام – وأن التعقّب عليهم معناه ترجيح قول غيرهم على قولهم، وهو غير صحيح، ليس تعصّبًا أو ميلا مع الهوى، وإنما لأن معلومهم ومحفوظهم ليس مثل غيرهم.
وفى نهاية هذه النقطة أنبّه إلى أن خطأ التعقّب قاعدة أغلبية قد تنخرق، فإنّه قد يصحّ التعقّب فى بعض المواطن، لكن العبرة بالأغلب، والاعتبار فى العمل يكون عليه.
وأسوق للقارئ مثالاً واحدًا يدلّ على أن باب التعقّب ينبغى أن يسدّ: حديث «أَشْقَى الأَشْقِيَاءِ مَنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَقْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) قال عنه الألبانى: موضوع، وقال: " قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبى، قال: قلت: وهو من أوهامهما الفاحشة " وشرع الألبانى يستدلّ على وضع الحديث (64).
ومهما كان ما قاله الألبانى فى الاستدلال فالسؤال المهمّ هو: هل هذا التعقب ينضبط؟
إنّ الألبانى نفسه يقول فى مقدّمة الطبعة الأولى لسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: " وقد أغيّر حكمى السابق على الحديث بحكم آخر بدا لى فيما بعد أنه أعدل وأرجح كأن أقول: " ضعيف جدًا " بدل " ضعيف " أو العكس، وضعيف " بدل " موضوع " أو العكس، ونحو ذلك، وهذا وإن كان نادرًا، فقد رأيت أن أنبّه إليه لأمرين... إلخ كلامه " (65).
ومما ينبغى الحذر منه فى باب التعقّب خاصّة: التعقّب بعدم الوجود، فإن ذلك لا يصحّ غالبًا، وتعقّب به المحدّثون بعضهم فى أحيان كثيرة، ومن ذلك مثلاً: قال ابن حجر ت 852 هـ: " حَدِيثُ (مَانِعُ الزَّكَاةِ فى النَّارِ) قال ابن الصَّلَاحِ: لم أَجِدْ له أَصْلا. وهو عَجِيبٌ منه، فَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِى فى الصغير فى (من اسْمُهُ مُحَمَّدٌ) " (66).
وقال أيضًا "وَقَعَ فى صَحِيحِ ابن حِبَّانَ من حديث ابن مَسْعُودٍ زِيَادَةُ (وَبَرَكَاتُهُ) وَهِى عِنْدَ ابن ماجه أَيْضًا، وهِى عِنْدَ أبى دَاوُد أَيْضًا فى حديث وَائِلِ بن حُجْرٍ، فَيَتَعَجَّبُ من ابن الصَّلَاحِ حَيْثُ يقول: إنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ فى شىء من كُتُبِ الحديث (67).
وقال فى " (حَدِيث رُوِى أَنَّهُ - صلى اللَّهُ عليه وسلم - قال لِلْأَعْرَابِى الذى جَاءَهُ وقد وَاقَعَ «صُمْ شَهْرَيْنِ» فقال: وَهَلْ أُتِيتُ إلَّا من قِبَلِ الصَّوْمِ): هذا اللَّفْظُ لا يُعْرَفُ. قَالَهُ ابن الصَّلَاحِ، وقال: إنَّ الذى وَقَعَ فى الرِّوَايَاتِ إنه لا يَسْتَطِيعُ ذلك. انْتَهَى، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَمَّا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ... " (68) وأمثلة ذلك كثيرة.
قال مرعى الحنبلى ت 1250 هـ فى مقدّمة كتابه الفوائد الموضوعة فى الأحاديث الموضوعة: " قال الحافظ صلاح الدين العلائى: وقال الزركشى: وقد حكم جمع من المتقدّمين على أحاديث بأنه لا أصل لها، ثم وجد الأمر بخلاف ذلك، وفوق كل ذى علم عليم. انتهى وذلك كصلاة التسبيح (69)...
وقد أشرنا فيما سبق إلى أن من المصنّفات ما اشتهر تعقّب المحدثين عليه، وأنه انتهى هذا الأمر، ولا يبقى للمعاصر إلا الترجيح إذا اختلفت تعقبّات الأوائل.
الثابت السابع: الموضوع كلّه مكشوف معروف، ولا يغيب منه شىء عن علم المحدّثين مجتمعًا:
الوضع فى الحديث مرحلة انتهت – ولله الحمد – وأسباب الوضع وعلاماته تاريخ يُحكَى، يبيّن لنا وعى المحدّثين ودقّتهم، وحرصهم على حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - تمامًا كالذى حكاه التاريخ عن جمع القرآن، وبيان القراءات الشاذة والمتواترة.
روى ابن الجوزى ت 597 هـ بإسناده عن: " محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه قال: ما دام أبو حامد الشرقى فى الأحياء لا يتهيأ لأحد أن يكذب على رسول الله.
وبإسناده عن ابن خزيمة، ونظر إلى أبى حامد الشرقى، فقال: حياة أبى حامد تحجز بين الناس والكذب على رسول الله.
قال المصنّف: أبو حامد اسمه أحمد بن محمد بن الحسن النيسابورى، يعرف بابن الشرقى، سمع من مسلم بن الحجاج وغيره، وكان حافظًا متقنًا.
وبإسناده عن أبى الحسن الدارقطنى يقول: يا أهل بغداد لا تظنون أن أحدًا يقدر يكذب على رسول الله وأنا حى.
قال: وقد روينا عن ابن المبارك أنه قيل له: هذه الأحاديث المصنوعة، فقال: تعيش لها الجهابذة " (70).
وقال ابن الجوزى بإسناده عن: " سفيان يقول: ما ستر الله - عزّ وجلّ - أحدًا يكذب فى الحديث.
وقال: وقد روينا عن ابن المبارك : لو همَّ رجل فى السَّحَر أن يكذب فى الحديث لأصبح الناس يقولون: فلان كذاب (71).
وقال ابن الصلاح ت 643 هـ: " والواضعون للحديث أصناف، وأعظمهم ضررًا قوم من المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الحديث احتسابًا فيما زعموا، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركونًا إليهم، ثم نهضت جهابذة الحديث بكشف عوارها ومحو عارها، والحمد لله " (72).
والمقصود: ألاَّ يظن المتأخّر أنه يوجد من الموضوع ما خفى علمه عن المتقدّمين فى مجموعهم، فرووه، ولم ينبهوا إلى كونه موضوعًا.
الخلاصة:
فيما سبق عرفنا عدّة ثوابت كانت تشكّل إطارًا معرفيًا يعمل خلاله المحدّث أثناء اجتهاده فى معرفة درجة الحديث الشريف، وهذه الثوابت لو كانت واضحة كما يكفى فى ذهن المشتغل بالحديث النّبوى، فالظنّ أنه يكون أكثر حذرًا وحيطة وأدبًا مع حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ومع المحدّثين الأوائل، ومِن ثَمَّ يكثر صوابه على خطئه بإذن الله تعالى.
وعرفنا أن هذا الإطار العام بما فيه من ثوابت يشكّل الضابط الأوّل المطلق الذى على المعاصر التقيّد بلوازمه أثناء الاجتهاد فى الكلام على الأحاديث.
وفيما يلى أذكر باقى الضوابط التى يتعيّن على المجتهد التقيّد بها:
الضابط الثانى: أن يكون المشتغل بتبيين درجة الحديث الشريف مؤهّلاً لذلك:
وهذا التأهيل يتّصل الجزء الأكبر منه بصفاته الشخصية، وكثرة معارفه، وسعة علمه، وعظيم اطلاعه، وتقواه وصلاحه، وكلّ ما يذكره الفقهاء والأصوليون عادة فى شروط المجتهد..
ومن ذلك قطعًا معرفته بقواعد الأصول المتّصلة بأحكام الاجتهاد.
ويضاف إلى ذلك أيضًا ملكته التى ذكرها المحدّثون فى معرفة العلل التى تنشأ عن كثرة المزاولة للأحاديث والأسانيد.
قال أبو عبد الله الحاكم ت 405 هـ: " وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واهٍ، وعلّة الحديث يكثر فى أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علّة، فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديث معلولاً، والحجّة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير، وقال عبد الرحمن بن مهدى: معرفة الحديث إلهام، فلو قلت للعالم يعلل الحديث: من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة " (73).
والحافظ ابن حجر نقل كلام الحاكم، وأرجع معرفة العلّة إلى بيان الاختلاف، وذكر أنه علم غامض يحتاج إلى جمع الطرق، لكنه قال أيضًا:... وقد تقصر عبارة المعلل منهم، فلا يفصح بما استقرّ فى نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، كما فى نقد الصيرفى سواء.... " (74).
ولصعوبة علم العلل لم يخض فيه إلا الجهابذة والنقّاد الذين جمعوا بين كثرة الرواية، وجمع الأبواب، وسعة العلم، وغزارة الفقه.
فالحقّ أنّ معرفة العلل يصعب جدًا، وأخشى معه أن يكون اشتراط معرفة العلل للمشتغل بتبيين درجة الحديث شرطًا نظريًا فقط، ولو اتّبعنا ما تقدّم نقله عن أبى المظفّر السمعانى فى قوله (إن نقد الأحاديث مقصور على قوم مخصوصين، فما قبلوه فهو المقبول، وما ردّوه فهو المردود...)؛ لصحّ لنا أن نغلق باب الاجتهاد فى الحكم على الأسانيد خاصّة بالصحّة والحسن، وهما حكمان يشترط فيهما انتفاء العلّة.
ولكنى – كشخص مفرد لا كهيئة معتبرة - لا أقوى على القول بأن باب الاجتهاد فى تبيين درجة الحديث مغلق، مع كون قضيته جديرة بالبحث.
الضابط الثالث: أن يكون دقيقًا فى استعمال الألفاظ متقيّدًا بمدلولاتها حسب ما استقرّ عليه اصطلاح المحدّثين:
نقل ابن الملقن ت 804 هـ عن النووى ت 676 هـ - رحمهما الله - قاعدة عامة فى التصنيف، قال: " قال النووى: " وينبغى أن يتحرّى العبارات الواضحة والاصطلاحات المستعملة " (75).
وقال الزركشى ت 794 هـ: " بين قولنا (لم يصح) وقولنا (موضوع) بون كبير، فإن الوضع إثبات الكذب والاختلاق، وقولنا (لا يصح) لا يلزم منه إثبات العدم، وإنما هو إخبار عن عدم الثبوت، وفرق بين الأمرين. " (76)
قلت: وكذلك فرق بين قولنا: ضعيف أو حتى منكر، وهو شديد الضعف، وبين قولنا (موضوع)
ومن هنا فالظنّ – والله أعلم – أنّ الألبانى أخطأ فى قوله عندما حكم على حديث بالوضع: " تنبيه: ولا منافاة بين قول الحافظ هذا، وبين حكمنا عليه بالوضع؛ إذ إن الموضوع من أنواع الضعيف كما هو مقرّر فى علم المصطلح " (77).
فإنّ الموضوع من أنواع الضعيف. نعم، لكن محلّ هذا التقسيم النّظرى الذى تذكره كتب المصطلح، ويدرّس لطالب العلم، لكن حيث قال المحدّث: ضعيف، فهو لا يريد به قطعًا الموضوع باعتبار أنه أحد أنواعه.
بل أراد الحافظ: الضعيف، وأراد الألبانى: المكذوب، وكلامهما متنافيان.
وليس مقصودنا إثبات الصواب فيما انتهى إليه حُكْمَاهما، وإنما المقصود أنّ استبدال الألفاظ واستعمالها فى غير الشائع فى اصطلاح القوم لا يجوز.
الضابط الرابع: إذا كان الحديث مرويًا فى دواوين الإسلام المقصود بها حفظ السنّة فعلى المشتغل بتبيين درجة الحديث أن يتبّع المحدّثين فيما رووه على وجه البيان، وذكروا حكمه.
وعليه أن يلاحظ قصدهم من التصنيف فيما لم يجد عليه حكمًا منقولاً، فإن ما رواه المحدّثون فى المصنّفات التى بوّبوها على أبواب الفقه، وسكتوا عنه فى أقل الأحوال معمول به:
وباختصار: على المعاصر ألا يخالف المحدّثين فى أحكامهم التى ذكروها صراحة أو حكمًا، فتطبيق قواعد المحدّثين شرطه ألا يعود على أحكامهم بالبطلان، وذلك يتصوّر حين يصف المعاصر حديثًا بالوضع أو بأنه مطروح، وهو فى الكتب الستة أو ما يلحق بها، وفق ما سبق أن بيّناه من ملاحظة حكمهم الضمنى على الحديث الذى رووه فى الكتب المصنّفة، بقصد جمع أدلّة الأحكام ما لم يذكروا له علّة.
ولمزيد توضيحٍ أقول:
إن طرائق المحدّثين فى التصنيف متعددة أشار إليها ابن الصلاح، فذكر التصنيف على الأبواب الفقهية، وعلى مسانيد الصحابة، وجمع الحديث معلّلاً، وجمع التراجم المشهورة (78).
فإذا أورد المحدّث الحديث فى كتابٍ يريد بتصنيفه جمع حديث النبى صلى الله عليه وسلم وروايته بقصد نشر أدلّة الأحكام وفروع الدين، فإنّه يراه حديثًا صالحًا مقبولا، وقد يذكر الموضوع لينبّه؛ عليه إذ لا تحلّ رواية الموضوع من الحديث إلا على جهة البيان.
وكذلك كان الأئمة يروون المعلول من الحديث لبيان علّته، ويروون المسند أحيانًا لبيان أن المحفوظ هو المرسَل، فما رواه المحدّثون على وجه البيان اتبعناهم فيه دون أن نخرج عن قولهم، ونبدّل ألفاظهم بغيرها؛ لأن كل لفظ له دلالة اصطلاحية لا تتعداه إلى غيره، فالمعلول معلول ليس موضوعًا، والموضوع مكذوب ليس ضعيفًا، والضعيف ضعيف ليس موضوعًا، وهكذا.
قال ابن حجر ت 852 هـ: " فمتى وجدنا حديثًا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله فالأوْلى اتباعه فى ذلك، كما نتبعه فى تصحيح الحديث إذا صححه... " (79).
وقال د. نور الدين عتر بعدما ذكر مسألة التصحيح فى الأعصار المتأخّرة، قال: " لما كان العهد قد بَعُد برجال الأسانيد فإنه يجب الاحتياط الشديد فى هذا الأمر، ولا يظن ظان أنه من السهولة؛ بحيث يكتفى فيه بتقليب كتب فى الرجال، كما يتوهّم بعض الناس، حتى قد يتجرأ على مخالفة الأئمة فيما حققوه وقرّروه، بل يجب أن يوضع فى الحسبان كافة احتمالات الوهن والنقد فى السند والمتن، ثم لا يكون الحكم جازمًا، بل هو حكم على الظاهر الذى تبدّى لنا... " (80).
وهنا ينبغى أن نفرّق فى كتب الحديث بين نوعيْن من كتب الحديث وبين غيرهما:
الأوّل: كتب الحديث والسنة المشهورة التى قصد مصنّفوها بتصنيفها جمع أدلّة الأحكام ليعمل بها النّاس، وهى دواوين الإسلام المشهورة فى الحديث، وذكرها ابن الصلاح وغيره (81).
النوع الثانى: كتب الحديث التى ذكر مصنّفوها شرطًا لهم، مثل: البخارى ومسلم وأبى داود والترمذى وابن خزيمة وابن حبّان والبغوى.... إلخ.
مثلاً: قال السخاوى ت 902 هـ حكاية عن البغوى فى ابتداء كتابه: " وقد قال: وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه، وأعرضت عما كان منكرًا أو موضوعًا " (82).
فمتى كان الحديث فى هذين النوعيْن فالحكم عليه بما يخالف الأوائل عسير.
فإذا لم نقف على نصّ فى تصحيح أو تضعيف أو غيرهما من أنواع الحكم على الحديث فى هذين النوعيْن من التصنيف، فينبغى أن نلاحظ قصد المصنّف من تصنيفه، فمتى ظهر قصد للمحدّث فى تصنيفه يرتفع عن مجرّد جمع الأحاديث، صارت رعاية مقصود المحدّث مهمّة، ومرجّحًا قويًّا فى معرفة حكم الحديث المسكوت عنه إلى جانب ما يظهر للناظر من دراسة ظاهر إسناده، وهو الذى عبّرنا عنه فيما سبق (ذكر المحدّث الحكم حكمًا).
وكذا حيث كان للمصنّف شرط التزمه، فإن الراجح دخول الحديث المسكوت عنه تحت شرطه.
وعليه يكون محلّ عمل المعاصر هو الحديث الذى لم يتقدّم عليه حكم المحدّثين صراحة أو حكمًا.
وعلى المعاصر أن يعرف – أيضًا - أنّ دواوين الإسلام فى الحديث خدمت فى كتب الزوائد والأطراف والتخاريج وغيرها، فإعادة الحكم على حديث ذكر المحدّثون حكمه عبثٌ، والمفاضلة فى الترجيح بين الحكميْن لن تكون فى صالح المعاصر، وليس لنا أمام أحكام السابقين وتعقّباتهم على بعضهم سوى الترجيح بين الأقوال – كما تقدّم – وكما سيأتى تفصيله فى الضابط التالى.
أما الحكم على حديث ابتداءً - إن أَبَى المعاصر إلا اقتحام بابه - فمحلّه كتب التفسير والفقه والأدب والتواريخ والتراجم.
وهذا هو تصرّف الأئمة الكبار الذين اهتمّوا بتخريج أحاديث كتب الفقه، كابن الملقّن وابن حجر والزيلعى والنووى، وغيرهم:
مثلاً، قال ابن الملقّن ت 804 هـ فى البدر المنير الذى صنّفه يتكلّم فيه على الأحاديث والآثار الواقعة فى (الفتح العزيز فى شرح الوجيز)، وهو الشرح الكبير الذى صنَّفه الإمام أبو القاسم الرافعى، أحد كبار الفقهاء الشافعية، قال: " لكنه - أَجْزَل الله مثوبته - مَشَى فى هذا الشرح المذكور على طريقة الفقهاء الخُلَّص، فى ذكر الأحاديث الضعيفة والموضوعات، والمنكرة والواهيات، والتى لا تعرف أصلاً فى كتاب حديث، لا قديم ولا حديث، فى معرض الاستدلال، من غير بيان ضعيف من صحيح، وسليم من جريح". (83).
ولكن أنبّه: إلى أن مشاهير تلك الكتب أيضًا قد خدمت، فما ذكر السابقون حكمه فهو خارج محلّ الاجتهاد، ويُكتفَى بنقل الحكم عن الأوائل، وتعقّبهم غير منتهٍ ولا منضبط كما تقدّم فى الثابت السادس.
أما سؤالنا متى يمكن الاستدراك على المحدّثين الأوائل فى حكمهم على الحديث؟
فإنّ الاستدراك على المحدّثين يكون فيما يجوز أن يخفى علمه على المحدّث، لا فيما عرفه وأوصله اجتهاده إلى حكم فيه، فإن اجتهاده لا ينقض باجتهاد غيره، واجتهاده مقدّم على اجتهاد غيره من جهة قرب عصره، وسعة معارفه وعلمه.
وهذا الضابط شبيه بما قاله الأحناف فى كلامهم على حجية الحديث الذى عمل بعض الأئمة بخلافه، فعملهم لا يضرّ الاحتجاج بالحديث إذا علم أنه خفى عليهم علمه.
قال السرخسى: " أن يظهر منه العمل بخلاف الحديث، وهو ممن يجوز أن يخفى عليه ذلك الحديث، فلا يخرج الحديث من أن يكون حجّة بعمله بخلافه... " (84).
وهو شبيه بما قاله النووى ت 676 هـ عن قول الشافعى ت 204 هـ: (إذا صحّ الحديث فهو مذهبى) قال: " هذا الذى قاله الشافعى ليس معناه أن كلّ أحد رأى حديثًا صحيحًا قال: هذا مذهب الشافعى وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد فى المذهب.... وشرطه أن يغلب على ظنّه أن الشافعى – رحمه الله - لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحّته، وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعى كلّها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها... " (85).
والمقصود أن الاستدراك يكون حيث يغلب على الظنّ انتفاء العلم، فالاستدراك فيما خفى مقبول، وفى موضوعنا يكون الخفاء متصوّرًا عند تعدد الطرق؛ لأن عدم الإحاطة ممكن من كلّ أحد.
ومثال على ذلك الحديث الذى أخرجه البيهقى ت 458 هـ عن السيدة عائشة – رضى الله عنها - قالت: " كَانَ النَّبِىُّ إِذَا دَخَلَ الْغَائِطَ دَخَلْتُ فِى أَثَرِهِ، فَلا أَرَى شَيْئًا، إِلا أَنِّى كُنْتُ أَشُمُّ رَائِحَةَ الطِّيبِ... " الحديث.
قال البيهقى بعده: " فهذا من موضوعات الحسين بن علوان، لا ينبغى ذكره، ففى الأحاديث الصحيحة والمشهورة فى معجزاته كفاية عن كذب ابن علوان " (86).
قال السيوطى ت 911 هـ فى الخصائص الكبرى فى باب المعجزة فى بوله وغائطه - صلى الله عليه وسلم -: " وقال البيهقى: هذا الحديث من موضوعات ابن علوان "... ثمّ قال السيوطى: " قلت: كلا، ليس كما قال، فإن الحديث له طريق آخر عن عائشة، ثم ذكر له السيوطى سبعة طرق أخرى " (87).
أما الاستدراك الذى سببه غفلة المحدّث فالأصل أنه نادر بالنسبة للأئمة أصحاب المصنّفات المشهورة الذين شهد لهم قوة ضبطهم وحفظهم بالجلالة والإمامة.
فادعاء الغفلة - إن لم تكن نادرة جدًا - تناقض صريح مع الإمامة المثبتة لهم بشهادة جهابذة أهل عصرهم لهم بالضبط والإتقان ما أمكن معه تلقيبهم بالإمام والحافظ والحاكم ونحوها من أوصاف يعرفها المحدّثون.
وعلى افتراض حصول هذا القدر النادر من الغفلة، فإنه قد استوعبه مجموع المحدّثين عبر الأعصار بالبيان، فما تركوا للمعاصر إلا الترجيح بين أقوالهم كما سنعرف فى الضابط التالى:
الضابط الخامس: أن يكون عمله فى الحديث الذى ذكر المحدّثون حكمه صراحة أو حكمًا، واختلف معهم أقرانهم فى حكمه هو الترجيح بين الأقوال:
قال البيهقى ت 458 هـ - رحمه الله -: " النوع الثالث من الأحاديث، فهو حديث قد اختلف أهل العلم بالحديث فى ثبوته، فمنهم من يضعّفه بجرح ظهر له من بعض رواته خفى ذلك عن غيره، أو لم يقف من حاله على ما يوجب قبول خبره وقد وقف عليه غيره، أو المعنى الذى يجرحه به لا يراه غيره جرحًا، أو وقف على انقطاعه أو انقطاع بعض ألفاظه، أو إدراج بعض رواته قول رواته فى متنه، أو دخول إسناد حديث فى حديث خَفِىَ ذلك على غيره، فهذا الذى يجب على أهل العلم بالحديث بعدهم أن ينظروا فى اختلافهم، ويجتهدوا فى معرفة معانيهم فى القبول والرّد، ثم يختاروا من أقاويلهم أصحّها، وبالله التوفيق " (88).
وقال ابن حجر - رحمه الله -: " فمتى وجدنا حديثًا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله فالأوْلى اتباعه فى ذلك، كما نتبعه فى تصحيح الحديث إذا صحّحه،... وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل، وحيث يصرّح بإثبات العلّة، فأما إن وجد غيره صححه فينبغى حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين كلاميهما.
وكذلك إذا أشار المعلّل إلى العلّة إشارة، ولم يتبيّن منه ترجيح لإحدى الروايتين، فإن ذلك يحتاج إلى الترجيح، والله أعلم " (89).
وقال أيضًا: " قد يخفى على الحافظ بعض العلل فى الحديث، فيحكم عليه بالصحة بمقتضى ما ظهر له، ويطلع عليها غيره، فيرد بها الخبر، وللحاذق الناقد بعدهما الترجيح بين كلاميهما بميزان العدل، والعمل بما يقتضيه الإنصاف " (90).
فيكون عمل المعاصر هنا محصورًا فى الترجيح بين أقوال السابقين إذا اختلف حكمهم والاختيار بين أقوالهم دون الخروج عنها بجديد.
الضابط السادس: أن لا يكون معتمدًا فى حكمه على ظاهر حال الإسناد:
تقدّمت الإشارة فى السبب الرابع من أسباب الوقوع فى الخطإ إلى أنّ المعاصر كثيرًا ما يعتمد فى الحكم على ظاهر حال الإسناد، وما يجده من متابعات أو شواهد تقوّيه.
وأشرت إلى أنّ ذلك وحده غير كافٍ، وأن الأوائل عرفوا إلى جانب ذلك فقه الحديث، وفتاوى الصحابة وآثار التابعين، وأنهم اعتبروا ذلك كلّه فى تقوية الحديث.
وهذا ليس صنيع الفقهاء فقط كما هو مشهور، بل هو صنيع المحدّثين أيضًا، وذلك بروايتهم أحاديث عليها عمل الفقهاء مع ضعفها، حيث رأوا أن عمل الفقهاء بها يقوّيها فتكون صالحة للاحتجاج أحيانًا، وللعمل فى أحيان أخرى.
وهذا الجزء من عمل الفقهاء لم يعد منظورًا إليه إطلاقًا عند المعاصرين، مع كونه معتبرًا عند المحدّثين كما تقدّم.
وقد أشرنا إلى أن أحاديث الكتب الستة وغيرها من المصنّفات على أبواب الفقه مثل كتب الدارقطنى والبيهقى وغيرهما ما هى إلا جمع لأدلة المذاهب الفقهية.
وعلينا أن نعرف أن ما يظهر لنا من ضعف بعض الأحاديث التى احتجّ بها الفقهاء بالإسناد الذى حصل للمحدّث وأورده فى كتابه غير قاطع فى حكمه، فإنه لا يمتنع أن يلحق الضعف الإسناد بعدما طال فى رواية المحدّثين – وهم متأخرون عن الفقهاء كما تقدّم - بسبب راوٍ ضعيف رواه، ويكون الفقيه وقف عليه بإسناد عالٍ قبل أن يدخل فى إسناده مَن ضُعّف من الرواة.
فعمل الفقهاء، وتلقّيهم للحديث بالقبول غائب كليًّا عن بحث المعاصر.
ومن جانب آخر فإن انتفاء العلّة شرط مهمّ من شروط الحديث الصحيح والحسن، وانتفاء العلّة لا يمكن التأكّد من تحققه بدراسة الإسناد، وروايات الباب فقط، وإلا لم تكن العلّة صعبة الإدراك لا يعرفها إلا الجِهبذ من المحدّثين كما يقول علماء الحديث، وكان لكل من استطاع جمع الطرق أن يقف على العلّة فى حديث ما، وما أيسر ذلك على المعاصر فى عصر التقنية الذى نعيشه !
لكن جمع الطرق ليس هو طريق معرفة العلل الذى اتّبعه المتقدّمون، بل انضمّ له أمر أهم منه وهو مذاكرة علماء مخصوصين، وهذه الآلة لا يملكها المعاصر.
ذكر أبو عبد الله الحاكم ت 405 هـ - رحمه الله - أمثلة لأحاديث صحيحة الإسناد لكنها معلولة، ثم قال:
" ففى هذه الأحاديث الثلاثة قياس على ثلاث مائة أو ثلاثة آلاف أو أكثر من ذلك: إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط، وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علّة الحديث، فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة غير مخرّجة فى كتابى الإمامين البخارى ومسلم لزم صاحب الحديث التنقير عن علته، ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته. " (91).
وقال أيضًا: " معرفة علل الحديث، وهو علم برأسه غير الصحيح والسقيم والجرح والتعديل.
وروى بإسناده عن عبد الرحمن بن مهدى: لأن أعرف علّة حديث هو عندى أحبّ إلى من أن أكتب عشرين حديثًا ليس عندى.
قال أبو عبد الله: وإنما يعلَّل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه، وعلة الحديث يكثر فى أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علّة، فيخفى عليهم علمه فيصير الحديث معلولاً، والحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير " (92).
وكلام الحاكم السابق يشير إلى أنّ العلة صعبة الإدراك وأن طريق معرفتها: الفهم والحفظ وكثرة السماع، وأنّ أكثر معين لذلك هو مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى.
وقال الترمذى ت 279 هـ ما يبين مصادر ذكر العلل فى الأحاديث والرجال: " وما كان فيه من ذكر العلل فى الأحاديث والرجال والتاريخ فهو ما استخرجته من كتب التاريخ، وأكثر ذلك ما ناظرت به محمد بن إسماعيل، ومنه ما ناظرت به عبد الله بن عبد الرحمن، وأبا زرعة، وأكثر ذلك عن محمد، وأقل شىء فيه عن عبد الله وأبى زرعة، ولم أر أحدًا بالعراق ولا بخراسان فى معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كثير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل " (93).
وهذا الذى يعرفه المشتغل بدراسة العلل، فهو يرى كبارهم سألوا كبارهم عن العلل، ويعرف أنّ سؤالات الترمذى للبخارى، وسؤالات ابن أبى حاتم، وسؤالات ابن معين، والمدينى، وأحمد، وغيرهم كانت الطريق إلى معرفة العلل، وليس مجرّد جمع الطرق.
ولو أنّ جمع الطرق بمجرّده يكفى للوصول إلى إدراك العلّة فى حديث لقدر عليه الترمذى بدون أن يسأل عنه البخارى - رحمهما الله - وقدر عليه غيرهما بمجرّد جمع الطرق واطلاعه على المخالفة.
والعلّة لا تدرك بالتفرّد والمخالفة مطلقًا، فإن التفرّد والمخالفة ينشأ عنهما نوعا الشاذ والمنكر، أما المعلول فلا أجد طريقًا لمعرفته فى تطبيقات المحدّثين الأوائل غير مذاكرة أئمة معيّنين، هم أهل نقد الحديث كما وصفهم أبو مظفر السمعانى – رحمه الله – فيما سبق أن نقلناه عنه.
والذى يلزم المعاصر فى أدنى الأحوال إذا أراد أن يحكم على حديث بالصحّة أو الحسن فيما لم يجد عليه حكمًا - صراحة أو حكمًا - فى كتب المحدّثين، فالذى يلزمه فى هذه الحال أن يطالع كتب العلل ليتأكد من خلوّها من الحديث الذى يبحث عن حكمه، وهى طريق غير قاطعة أيضًا لتصوّر إمكان اندراس كثير من كتب العلل، والله أعلم.
وهذا مما هو غائب كليًّا عن ذهن المعاصرين الذين يشتغلون ببيان درجة الحديث الشريف.
الضابط السابع: ألا يكون ردّه لحديث لأجل متنه مجرّدًا حتى تظهر قرينة فى الإسناد تشهد للرّد:
تطبيق هذا الضابط نتاج مراجعة عبارة (نقد متون السنّة)، فإنّ هذه العبارة مشكلة؛ حيث إننا لا نراها بهذا الإطلاق فى كلام المحدّثين الأوائل ولا فى تطبيقهم، بل إن عرض الحديث على القرآن الكريم منهج أهل البدعة، فإن السنّة حجّة بذاتها.
وما رُوِى عن الصحابة أو الفقهاء مما فهم منه البعض عرضهم السنّة على القرآن إنما كان فى حديث تشكّكوا فى راويه، فظنّوا أنه وهم أو أخطأ السمع أو الفهم، فذكروا لروايته لفظًا آخر، أو فهمًا آخر، ثمّ استدلّوا على صحّة قولهم بما ذكروا من آية أو حديث، وليس عرض السنّة على القرآن الكريم قاعدة عامة أو منهجًا متبعًا يقيسون به صحّة الحديث، وإلا كنّا نجده ضمن شرائط المقبول من الحديث فى كتب المصطلح.
وإذا كان عرض السنّة على القرآن الكريم ليس منهج السلف، فما بالنا من عرض السنّة على رأى فلان من الناس ! فالذّوق والحسّ والرأى، كلّ هذا يختلف الناس فى تقديره وتحديد المقبول منه من غير المقبول، والسائغ من غير السائغ، وبالتالى: لا يخوّل ردّ الحديث به.
ولم يعرف المحدثون قديمًا التوسّع فى استعمال عبارة (نقد متون السنّة) على النحو الذى يفعله بعض المعاصرين، ولم يردّوا حديثًا رواه الثقة لأنه يخالف العقل، وقد رووا فى العقائد – وهى أكثر ما احتاطوا فيه – أحاديث يخالف ظاهرها العقل والنقل، وأقرّوا باللفظ الذى ظاهره التشبيه، وفوّضوا العلم بمعناه إلى الله رب العالمين (94).
وكلّ ما ذكروه فيما يخصّ متن الحديث نحو: الشذوذ فى المتن، والإدراج، وأمارات للحديث الموضوع منها: أنه يخالف العقل أو الحسّ إنما كان تاليًا لدراسة الإسناد أو الطرق ومقارنة المرويات.
وعمومًا فإنّ مسألة (نقد المتن وضوابطها) مدروسة بإسهاب فى بحث مستقل يهتمّ بضوابط الحكم بالوضع خاصّة.
الضابط الثامن: يتعيّن على المعاصر أن يصف بحكمه الذى يذكره الإسناد لا الحديث:
إنّ ذكر سلسلة الرواة الذين حدّثوا بالحديث كل عمَّن سمعه منه هى الأداة التى تمكّن من معرفة درجة الحديث بدراسة إسناده؛ إذ لو سقط الإسناد لم يمكن معرفة درجة الحديث، فالإسناد طريق لمعرفة درجة الحديث.
ومع ذلك فإنّ سلامة الإسناد أو عدمها ليس معناه الحكم القاطع على المتن، وإنما هو علامة أو أمارة على صحّة المتن، أو عدمه بهذا الإسناد لا مطلقًا.
قال ابن الصلاح ت 643 هـ: " ومتى قالوا: هذا حديث صحيح، فمعناه أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة، وليس من شرطه أن يكون مقطوعًا به فى نفس الأمر، إذ منه ما ينفرد بروايته عدل واحد، وليس من الأخبار التى أجمعت الأمة على تلقّيها بالقبول، وكذلك إذا قالوا فى حديث إنه غير صحيح، فليس ذلك قطعًا بأنه كذب فى نفس الأمر؛ إذ قد يكون صدقًا فى نفس الأمر، وإنما المراد به أنه لم يصحّ إسناده على الشرط المذكور، والله أعلم " (95).
وقال ابن الصلاح: " قولهم: هذا حديث صحيح الإسناد أو حسن الإسناد دون قولهم: هذا حديث صحيح أو حديث حسن؛ لأنه قد يقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ولا يصح لكونه شاذًّا أو معللاً؛ غير أن المصنّف المعتمد منهم إذا اقتصر على قوله إنه صحيح الإسناد، ولم يذكر له علّة، ولم يقدح فيه، فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح فى نفسه... والله أعلم " (96).
وحيث إننا لا نقوى على وصف المعاصرين بالمعرفة التامة لعلل الأحاديث، التى يكون انتفاؤها شرطًا لوصف الحديث بالصحّة أو الحُسْن، فعلينا أثناء بيان درجة الحديث التزام تقييد الوصف وتخصيصه بالإسناد المعيّن، والله أعلم.
الضابط التاسع: أن يعرف مقتضى الحكم على الحديث:
لا بد أن يكون واضحًا فى ذهن المعاصر، وهو يشتغل ببيان درجة الحديث الشريف، أن حكمه لا يتجاوز بيان درجة الحديث إلى معرفة الحكم المستنبط منه، أو الاحتجاج به على ما يدلّ عليه متنه، فإنّ هذا الأخير هو مهمّة الفقيه.
فحيث ظهر له ضعف الإسناد، وأراد المعاصر بيان ضعف الحديث الذى استحلّ المحدّثون روايته دون بيان ضعفه؛ إما لأن عمل الفقهاء عليه، أو لأنه فى أبواب الترغيب والفضائل ونحوها، فعليه أن يذكر مذاهب الفقهاء فى العمل به إلى جانب ذكره درجة الحديث، أو أن يذكر أنه من النوع الذى تسامح فى روايته المحدّثون وعمل به الفقهاء، وإن لم يفعل فهو فى خطر الوقوع فى صدّ الناس عن العمل بالحديث الشريف الذى عمل به الفقهاء، وإن ضعف إسناده.
فقد عمل الفقهاء بالحديث الضعيف فى مواضع، منها: إذا لم يوجد فى الباب غيره، كما هو تصرّف الإمام أحمد وأبى داود. ومنها: ما إذا تلقّته الأمة بالقبول، وأجمع الفقهاء والمحدّثون على العمل به فى فضائل الأعمال (97).
قال النووى ت 676 هـ فى خلاصة الأحكام: " وإنما أباح العلماء العمل بالضعيف فى القصص، وفضائل الأعمال التى ليست فيها مخالفة لما تقرّر فى أصول الشرع، مثل: فضل التسبيح، وسائر الأذكار، والحثّ على مكارم الأخلاق، والزهد فى الدنيا، وغير ذلك مما أصوله معلومة مقررة " (98).
ونحن نعرف أن الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله - من كبار المحدثين الفقهاء، وهو صاحب مذهب، وألّف المسند، واعتنى به، ثمّ جمع كتبًا فى الزهد وبرّ الوالدين، والورع... إلخ، ولم يشترط أن يكون الحديث صحيحًا أو حسنًا، ولو كان ذلك واجبًا لفعله.
وابن أبى الدنيا – رحمه الله - أحد أئمة الحديث، ولم يلق للضعف بالاً فى باب الفضائل والمناقب وأمثالها.
والبخارى – رحمه الله - صنّف الصحيح على شرط شديد، حتى كان كتابه أصحّ كتاب بعد كتاب الله باتفاق العلماء، ثم صنّف الأدب المفرد، ولم يبالِ.
وكل المحدثين ما أرادوا إلا حفظ السنّة، ونفع النّاس، ونشر حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وكانوا يعرفون من فى عصرهم ممن سمعوا منه ورووا عنه، ويعرفون من فوقهم من شيوخهم لتقارب الزمان، ولو لم يدركوه عيانًا.
فمتى ظهر للمشتغل ببيان درجة الحديث ضعف الإسناد، فإما أن يشير معه إلى مواضع العمل بالحديث الضعيف، أو يشير إلى المذاهب الفقهية إن كان الحديث فى حكم من الأحكام.
فليس بين التضعيف وترك الاحتجاج تلازم مطلقًا، بل قد يحتج بالحديث الضعيف فى مواطن صرّح بذكرها الفقهاء، والاحتجاج مرتبة فوق العمل، فإذا احتجوا به فيكون العمل عليه، بل بين العمل بالحديث وروايته تلازم فى أغلب الأحوال، إلا حيث يظهر للمصنّف قصد آخر من ذكر الحديث غير الاستدلال، أو حيث يبيّن علّته، والله أعلم.
الضابط العاشر:
أن يتقيّد فى الحكم بالصحّة والحسن بضوابط الحكم بالصحّة والحسن، وفى الحكم بالضعف بضوابط الحكم بالضعف، وفى الحكم بالوضع بضوابط الحكم بالوضع، وهى ضوابط مبسوطة فى بحوث أخرى يجدر بالمهتم مطالعتها (99).
الخاتمة
فيما سبق ذكرت عدّة معارف وضوابط مستخلصة من كتب الأصول والحديث، ولعلّ استحضار المشتغل بتبيين درجة الحديث لها يعصمه من الوقوع فى خطر الجسارة والجرأة على مخالفة الأئمة السابقين فى أحكامهم تبعًا لدراسة ظاهر الإسناد، وأحوال الرجال.
ثمّ من خطإ اتباع القواعد الجزئية وإعمالها فى غير محالّها الصحيحة، وخارج إطارها الكلى الذى تنتظم تحته.
ثم من خطإ إغفال بعض القواعد الأصولية التى على المجتهد عمومًا التزامها مهما كان تخصصه.
ثم من خطإ الاعتماد على الدراسة النظرية فى تكوين مَلَكَة كمَلَكَة الأوائل تؤهّل لنقد الأحاديث.
ويوصى البحث – تبعًا لما انتهى إليه – بما يلى:
1 – تضييق مجال الكلام فى أحكام الحديث الشريف.
2 – عدم التعرّض لأحاديث الصحيحين وأحاديث الكتب الستّة بغير ما ذكره أصحابها فى أحكامها، والاكتفاء بالعزو إليها عن الكلام فى درجتها.
3 – عدم التعرّض للأحاديث التى سبق ذكر حكمها فى كلام المتقدّمين إلا على جهة الترجيح بين أقوالهم إذا اختلفوا.
4 – التقيّد بالضوابط المذكورة فى البحث كشروط للاشتغال ببيان درجة الحديث.
ولعلّ المنصِف استبان أن هذه الضوابط موجودة فى كلام الأوائل كما دلّت عليه نصوصهم التى استشهدت بها، وعملى فى هذا البحث لا يزيد على استخراج تلك النصوص من بطون الكتب، وصياغة معانيها فى صورة ضوابط واضحة.
أسأل الله – تعالى - أن يجعله عملا خالصًا لوجهه مقبولا عنده، وأن ينفعنى به والمسلمين. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
المدينة المنورة / صفر 1433 هـ / يناير 2012 م.
المراجع
* إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق، محيى الدين أبى زكريا يحيى بن شرف النووى (ت 676 هـ)، تحقيق عبد البارى فتح الله السلفى، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة، ط1، 1408 هـ، 1987 م.
* أصول السرخسى، محمد بن أحمد بن أبى سهل السرخسى أبو بكر (ت 490 هـ)، دار المعرفة – بيروت.
* الأسرار المرفوعة فى الأخبار الموضوعة المعروف بالموضوعات الكبرى، نور الدين على بن محمد المشهور بالملا على القارى (ت 1014 هـ)، تحقيق: محمد الصباغ، دار الأمانة، مؤسسة الرسالة، بيروت 1391 هـ - 1971م.
* الإرشاد فى معرفة علماء الحديث، الخليل بن عبد الله بن أحمد الخليلى القزوينى أبو يعلى (ت 446 هـ)، تحقيق: د. محمد سعيد عمر إدريس، مكتبة الرشد - الرياض - 1409، الطبعة: الأولى.
* الاقتراح فى بيان الاصطلاح، تقى الدين بن دقيق العيد (ت 702 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت (1406 – 1986).
* الإلمام بأحاديث الأحكام، أبو الفتح تقى الدين محمد بن أبى الحسن على بن وهب القشيرى المصرى (ت 702هـ)، تحقيق: حسين إسماعيل الجمل، دار المعراج الدولية - دار ابن حزم - السعودية - الرياض، لبنان (1423هـ - 2002م)، الطبعة الثانية.
* الإنصاف فى بيان أسباب الاختلاف، أحمد بن عبد الرحيم ولى الله الدهلوى (ت 1176 هـ)، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، دار النفائس - بيروت، الطبعة: الثانية 1404 هـ.
* البحر المحيط فى أصول الفقه، بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشى (ت 794هـ)، تحقيق: د. محمد محمد تامر، دار الكتب العلمية - بيروت (1421هـ - 2000م) الطبعة الأولى.
* البدر المنير فى تخريج الأحاديث والآثار الواقعة فى الشرح الكبير، سراج الدين أبى حفص عمر بن على المعروف بابن الملقن (ت 804 هـ)، تحقيق: مصطفى أبو الغيط وآخرين، دار الهجرة للنشر والتوزيع - الرياض 1425هـ - 2004م، الطبعة 1.
* بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، الحافظ نور الدين الهيثمى ت (282 هـ)، مركز خدمة السنة والسيرة النبوية، المدينة المنورة (1413 هـ - 1992 م)، الطبعة: الأولى، تحقيق: د. حسين أحمد صالح الباكرى.
* تدريب الراوى فى شرح تقريب النواوى، عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى (ت 911 هـ)،، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة الرياض الحديثة - الرياض.
* التعريف بأوهام من قسم السنن إلى صحيح وضعيف، محمود سعيد ممدوح، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، دبى، ط 1، 1421 هـ، 2000 م.
* تعظيم قدر الصلاة، محمد بن نصر بن الحجاج المروزى أبو عبد الله (ت 294 هـ)، تحقيق: د. عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائى، مكتبة الدار، المدينة المنورة (1406 هـ) الطبعة: الأولى.
* كتاب التلخيص فى أصول الفقه، أبو المعالى عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجوينى (ت 478 هـ)، تحقيق: عبد الله جولم النبالى، وبشير أحمد العمرى، دار البشائر الإسلامية، بيروت (1996م).
* تلخيص الحبير فى أحاديث الرافعى الكبير، أحمد بن على بن حجر العسقلانى (ت 852 هـ)، تحقيق: السيد عبد الله هاشم اليمانى المدنى، دار المعرفة، بيروت.
* معجم جامع الأصول فى أحاديث الرسول، المبارك بن محمد بن الأثير الجزرى (ت 544 هـ).
* تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبرى ت 310هـ، تحقيق: محمود محمد شاكر، مطبعة المدنى - القاهرة.
* الجرح والتعديل، عبد الرحمن بن أبى حاتم الرازى التميمى (ت 327 هـ)، دار إحياء التراث العربى، بيروت (1952 م)، الطبعة: الأولى.
* الخصائص الكبرى، أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن أبى بكر السيوطى (ت 911 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت (1405هـ - 1985م).
* خصائص مسند الإمام أحمد، محمد بن عمر بن أحمد المدينى أبو موسى (ت 581 هـ)، مكتبة التوبة - الرياض – 1410.
* خطورة مساواة الحديث الضعيف بالموضوع، الأستاذ الدكتور خليل بن إبراهيم ملا خاطر العزامى، دار القبلة للثقافة الإسلامية ت جدة، ط 1 ـ 1428 هـ، 2007 م.
* خلاصة الأحكام فى مهمات السنن وقواعد الإسلام، يحيى بن مرى أبو زكريا، محيى الدين الدمشقى الشافعى (ت 676 هـ)، تحقيق: حسين إسماعيل الجمل، مؤسسة الرسالة، بيروت (1418هـ - 1997م)، الطبعة: الأولى.
* دلائل النبوة، للبيهقى (ت 458 هـ)، مؤسسة البراق.
* رسالة أبى داود إلى أهل مكة وغيرهم فى وصف سننه، سليمان بن الأشعث أبو داود (ت 275 هـ)، تحقيق: محمد الصباغ، دار العربية، بيروت.
* سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السئ فى الأمة، تخريج محمد ناصر الدين الألبانى، المكتب الإسلامى، بيروت، ط 3.
* شرح علل الترمذى، للحافظ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلى (ت 795 هـ)، عالم الكتب.
* صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمى البستى (ت 354 هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة: الثانية، (1414 - 1993).
* الضعفاء الكبير، أبو جعفر محمد بن عمر بن موسى العقيلى (ت 322)، تحقيق: عبد المعطى أمين قلعجى، دار المكتبة العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى (1404هـ - 1984م).
* علل الأحاديث فى كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج، أبى الفضل بن عمار الشهيد (ت 317 هـ)، تحقيق: على بن حسن الحلبى، دار الهجرة للنشر والتوزيع - الرياض - 1412هـ - 1991م.
* العلل الصغير، للترمذى (ت 279 هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربى، بيروت.
* علوم الحديث، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزورى (ت 643 هـ)، تحقيق: نور الدين عتر، دار الفكر المعاصر، بيروت (1397هـ - 1977م).
* فتح المغيث شرح ألفية الحديث، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوى (ت 902 هـ)، دار الكتب العلمية، لبنان - 1403هـ، الطبعة الأولى.
* الفقيه والمتفقه، أبو بكر أحمد بن على بن ثابت الخطيب البغدادى (ت 462 هـ)، تحقيق: أبو عبد الرحمن عادل بن يوسف العزازى، دار ابن الجوزى - السعودية (1421 هـ)، الطبعة: الثانية.
* الفوائد المجموعة فى الأحاديث الموضوعة، محمد بن على بن محمد الشوكانى (ت 1250 هـ)، تحقيق: عبد الرحمن يحيى المعلمى، المكتب الإسلامى - بيروت - 1407هـ، الطبعة الثالثة.
* قواطع الأدلة فى الأصول، أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعانى (ت 489 هـ)، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعى، دار الكتب العلمية – بيروت (1418هـ - 1997م).
* قواعد الأحكام فى مصالح الأنام، أبى محمد عز الدين السلمى (ت 660 هـ)، دار الكتب العلمية – بيروت.
* الكفاية فى علم الرواية، أحمد بن على بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادى (ت 463 هـ)، تحقيق: أبو عبد الله السورقى , إبراهيم حمدى المدنى، المكتبة العلمية - المدينة المنورة.
* لسان الميزان، أحمد بن على بن حجر أبو الفضل العسقلانى الشافعى (ت 852 هـ)، تحقيق: دائرة المعارف النظامية - الهند، مؤسسة الأعلمى للمطبوعات - بيروت - 1406 - 1986، الطبعة الثالثة.
* المجموع، للنووى (ت 676 هـ)، دار الفكر، بيروت (1997 م).
* مسألة التصحيح والتحسين فى الأعصار المتأخرة فى علوم الحديث، د. عبد الرزاق بن خليفة الشايجى، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1420 هـ، 199 م.
* معرفة علوم الحديث، أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابورى (ت 405 هـ)، تحقيق: السيد معظم حسين، دار الكتب العلمية، بيروت (1397هـ - 1977م) الطبعة الثانية.
* المقنع فى علوم الحديث، الإمام الحافظ سراج الدين عمر بن على بن أحمد الأنصارى الشهير بابن الملقن (ت 804 هـ)، تحقيق: عبد الله بن يوسف الجديع، دار فوّاز للنشر – الأحساء – المملكة العربية السعودية، ط 1، 1413هـ، 1992 م.
* المنخول فى تعليقات الأصول، محمد بن محمد بن محمد الغزالى أبو حامد (ت 505 هـ)، تحقيق: د. محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق (1400)، الطبعة الثانية.
* المنهج المقترح لفهم المصطلح (دراسة تأريخية تأصيلية لمصطلح الحديث)، الشريف حاتم بن عارف العونى، دار الهجرة الرياض، ط 1، 1416 هـ، 1996 م.
* منهج النقد فى علوم الحديث، د. نور الدين عتر، دار الفكر – دمشق، الطبعة الثالثة، 1401 هـ، 1981 م.
* الموضوعات، أبو الفرج عبد الرحمن بن على بن محمد القرشى (ت 597 هـ)، تحقيق توفيق حمدان، دار الكتب العلمية - بيروت - 1415 هـ - 1995م، الطبعة الأولى.
* ميزان الاعتدال فى نقد الرجال، شمس الدين محمد بن أحمد الذهبى (ت 748 هـ)، تحقيق: الشيخ على محمد معوض، والشيخ عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت (1995)، الطبعة الأولى.
* نظرات جديدة فى علوم الحديث، د. حمزة عبد الله المليبارى، دار ابن حزم، بيروت ط 1، 1416 هـ، 1995 م.
* النكت على مقدمة ابن الصلاح، بدر الدين أبى عبد الله محمد بن جمال الدين عبد الله بن بهادر ت 794 هـ، تحقيق: د. زين العابدين بن محمد بلا فريج، أضواء السلف - الرياض - 1419هـ - 1998م، الطبعة الأولى.
* النكت على كتاب ابن الصلاح، ابن حجرالعسقلانى ت (852 هـ).
* الورقات، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجوينى (ت 478)، تحقيق: د. عبد اللطيف محمد العبد.
العودة لصفحة المؤتمر
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) خطورة مساواة الحديث الضعيف والموضوع / د خليل بن إبراهيم ملا خاطر، ص 116.
(2) التعريف بأوهام من قسم السنن إلى صحيح وضعيف ص 29.
(3) خطورة مساواة الحديث الضعيف والموضوع ص 49.
(4) خطورة مساواة الحديث الضعيف والموضوع ص 49 – 50، ويشهد لقوله قول ابن حبّان فى صحيحه: " وَلا يَتَوَهَّمَنَّ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الأَخْبَارِ عَلَى حَسَبِ مَا جَمَعْنَا بَيْنَهَا فِى هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ السُّنَنِ يُضَادُّ قَوْلَ الشَّافِعِى - رَحْمَةُ اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ عَلَيْهِ - وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أَصْلٍ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِى كُتُبِنَا أَوْ فَرْعٍ اسْتَنْبَطْنَاهُ مِنَ السُّنَنِ فِى مُصَنَّفَاتِنَا هِى كُلُّهَا قَوْلُ الشَّافِعِى، وَهُوَ رَاجِعٌ عَمَّا فِى كُتُبِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَشْهُورَ مِنْ قَوْلِهِ، وَذَاكَ أَنِّى سَمِعْتُ ابْنَ خُزَيْمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُزَنِى يَقُولُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِى يَقُولُ: إِذَا صَحَّ لَكُمُ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخُذُوا بِهِ، وَدَعُوا قُولِى " صحيح ابن حبان ج 5 ص 497.
(5) البحر المحيط فى أصول الفقه ج 3 ص 476.
(6) رسالة أبى داود إلى أهل مكة ص 28.
(7) العلل الصغير ج 1 ص 736، وانظر: جامع الأصول ج 1 ص 173.
(8) نظرات جديدة ص 47.
(9) مسألة التصحيح والتحسين لعبد الرزاق الشايجى ص 115.
(10) تركت قصدًا الترجمة للأعلام لشهرتهم، وسهولة الطريق لمعرفة تراجمهم فى مظنّات ذلك فى البرامج الحاسوبية الميسّرة وغيرها، وذلك رغبة فى تخفيف حواشى البحث ليصبح حجمه معتدلاً بحيث يمكن نشره فى مجلّة المؤتمر.
(11) وعليها جمهور الفقهاء، ولهم فيها أقوال أخرى، انظر: البحر المحيط فى أصول الفقه ج 3 ص 354 - 356.
(12) نظرات جديدة فى علوم الحديث ص 61.
(13) تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب ج 1 ص 4.
(14) الإلمام ج 1 ص 47.
(15) الكفاية فى علم الرواية ص 107 - 108.
(16) النكت على مقدمة ابن الصلاح ج 1 ص 226 - 229.
(17) مقدمة ابن الصلاح ص 108.
(18) انظر: نظرات جديدة فى علوم الحديث ص 47.
(19) النكت على ابن الصلاح ج 2 ص 12.
(20) نظرات جديدة فى علوم الحديث ص 41.
(21) معرفة علوم الحديث ص 58.
(22) المنهج المقترح لفهم المصطلح ص 71.
(23) الإنصاف ص 64 – 65.
(24) قواطع الأدلة فى الأصول ج 1 ص 369 - 370.
(25) قواعد الأحكام فى مصالح الأنام ج 1 ص 51.
(26) الجرح والتعديل ج 2 ص 37.
(27) تعظيم قدر الصلاة ج 2 ص 659 – 660.
(28) ضعفاء العقيلى ج 1 ص 8.
(29) انظر: ميزان الاعتدال فى نقد الرجال ج 1 ص 118 - 119 (1252).
(30) خصائص مسند أحمد لابن المدينى ص 21 وانظر: فتح المغيث ج 1 ص 83.
(31) رسالة أبى داود إلى أهل مكة ص 31 – 32.
(32) فتح المغيث ج 1 ص 84.
(33) انظر: مقدمة ابن الصلاح 180.
(34) انظر: الأسرار المرفوعة فى الأخبار الموضوعة ص 73 - 74.
(35) الكفاية فى علم الرواية ص 431.
(36) النكت على مقدمة ابن الصلاح ج 1 ص 101.
(37) تدريب الراوى ج 1 ص 67 - 68 .
(38) المنهج المقترح لفهم المصطلح ص 248.
(39) المنهج المقترح لفهم المصطلح ص 257.
(40) خلاصة الأحكام ج 1 ص 60 – 61.
(41) إرشاد طلاب الحقائق ص 151 – 152.
(42) خصائص مسند أحمد ص 14.
(43) البدر المنير ج 1 ص 296، وانظر: خصائص مسند أحمد ص 21.
(44) الحكم الضمنى على الحديث اعتبره ابن الصلاح – رحمه الله – فى كلامه على طريق معرفة الصحيح، فى قوله: " ويكفى مجرد كونه موجودًا فى كتب من اشترط منهم الصحيح فيما جمعه، ككتاب ابن خزيمة، وكذلك ما يوجد فى الكتب المخرجة على كتاب البخارى وكتاب مسلم ككتاب أبى عوانة الإسفرائينى وكتاب أبى بكر الإسماعيلى وكتاب أبى بكر البرقانى وغيرها... ". مقدمة ابن الصلاح ص 21.
(45) انظر: التلخيص فى أصول الفقه ج 2 ص 371.
(46) المنخول ج 1 ص 320.
(47) الفقيه والمتفقه ج 1 ص 433.
(48) أصول السرخسى ج 1 342 - 343 .
(49) انظر: نظرات جديدة فى علوم الحديث ص 26 - 29 .
(50) للسيد محمود سعيد محمود دراسة جيّدة حول اتهام العجلى والترمذى وابن حبان بالتساهل، يثبت فيها بالدليل خطأ هذا الاتهام.
انظر كتابه (التعريف بأوهام من قسم السنن إلى صحيح وضعيف) ج 1 ص 355 إلى آخر الجزء الأول فى صفحة 482.
(51) انظر: ميزان الاعتدال فى نقد الرجال ج 1 ص 110 - 112.
(52) ميزان الاعتدال فى نقد الرجال ج 1 ص 112.
(53) شرح علل الترمذى ص (77).
(54) الورقات ص 23.
(55) فتح المغيث ج 1 ص 89.
(56) انظر: البدر المنير ج 1 ص 296.
(57) انظر: البدر المنير ج 1 ص 296.
(58) النكت على ابن الصلاح ج 2 ص 712.
(59) مثل: ابن دقيق العيد والزيلعى وابن حجر – رحمهم الله – وغيرهم.
(60) الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين فى تصحيح الأحاديث وتعليلها ص 212 – 213.
(61) الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين فى تصحيح الأحاديث وتعليلها ص 226.
وقد اعتبر د. المليبارى فى كتابه أن التفريق بين المتقدمين والمتأخرين تفريق منهجى لا زمنى، يعنى: من اتبع طريقة المتقدّمين فى اعتماد القرائن فى التصحيح والتضعيف فهو على منهج المتقدمين، ولو كان من المعاصرين، ومن اعتمد على ظواهر السند فى التصحيح والتضعيف فهو على منهج المتأخرين (انظر: موازنة ص 226).
وأرى – والله أعلم - أن هناك تلازمًا زمنيًا بين المنهجين، وليس منهجيًا فقط، والمرء ابن جيله – كما يقال – لبيئة عصره ومعارفه عليه تأثير لا يمكن التحرّر منه كليًّا.
(62) انظر: التعريف ج 1 ص 447 – 448 نقلاً عن فيض البارى (4 / 414 – 415).
(63) انظر: التعريف ج 1 ص 448 نقلاً عن: (الترخيص بالقيام لذوى الفضل والمزية من أهل الإسلام ص 59).
(64) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ص 171.
(65) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ص 8.
(66) تلخيص الحبير ج 2 ص 149.
(67) تلخيص الحبير ج 1 ص 271.
(68) تلخيص الحبير ج 2 ص 207.
(69) الفوائد الموضوعة فى الأحاديث الموضوعة ص 63 - 69.
(70) انظر: الموضوعات ج 1 ص 21.
(71) انظر: الموضوعات ج 1 ص 22 – 23.
(72) مقدمة ابن الصلاح ص 98 – 99.
(73) معرفة علوم الحديث ص 112 - 113.
(74) النكت على ابن الصلاح ج 2 ص 710 - 711.
(75) المقنع ص 418.
(76) النكت على مقدمة ابن الصلاح ج 2 ص 282 - 283 وانظر: الأسرار المرفوعة فى الأخبار الموضوعة ص 73 - 74 . وذلك مع التنبيه إلى ملاحظة السياق الذى قيلت فيه العبارة، فلو قال الذى يصنّف فى الموضوعات (لا يصح) فإنه يريد به أنه مكذوب، فى حين لو قالها فى سياق آخر فقد يريد بها أنه حسن أو ضعيف.
(77) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ص 26.
(78) انظر: مقدمة ابن الصلاح ص 253 - 254.
(79) النكت على ابن الصلاح ج 2 ص 710 - 711 .
(80) منهج النقد فى علوم الحديث ص 284.
(81) قال ابن الصلاح بعد ذكره أصحاب الكتب الخمسة المعتمدة: " سبعة من الحفاظ فى ساقتهم أحسنوا التصنيف، وعظم الانتفاع بتصانيفهم فى أعصارنا: أبو الحسن على بن عمر الدارقطنى البغدادى...، ثم الحاكم أبو عبد الله بن البيع النيسابورى...، ثم أبو محمد عبد الغنى بن سعيد الأزدى...، ثم أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهانى الحافظ... ومن الطبقة الأخرى: أبو عمر بن عبد البر النمرى...، ثم أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى...، ثم أبو بكر أحمد بن على الخطيب البغدادى... ". مقدمة ابن الصلاح 386.
(82) فتح المغيث ج 1 ص 85.
(83) البدر المنير ج 1 ص 115.
(84) أصول السرخسى ج 2 ص 8.
(85) انظر: مقدمة المجموع ج 1 ص 64.
(86) انظر: دلائل النبوة ج 6 ص 70 .
(87) الخصائص الكبرى ج1 ص121 – 122.
(88) دلائل النبوة ج 1 ص 34.
(89) النكت على ابن الصلاح ج 2 ص 710 - 711.
(90) النكت على ابن الصلاح ج 1 ص 271.
(91) معرفة علوم الحديث ص 59 - 60.
(92) انظر: معرفة علوم الحديث ص 112 - 113.
(93) العلل الصغير ص 738.
(94) أنبّه إلى أن ما ردّه الأئمة من أحاديث الصفات لم يستندوا فى ردّها إلى المتن وحده، وإنما ظهرت لهم قرائن من حال الراوى؛ سواء من ضعف حفظه، أو سوء فهمه، أو تفرّده بما لم يروه أقرانه عن شيخه، أو بما لم يعرف من رواية الصحابى الذى روى الحديث من طريقه، أو مخالفته من هو أوثق منه، أو غير ذلك من الأسباب التى ينقدح لأجلها فى نفس المحدّث الناقد خطؤه فى الحديث المعيّن، فيردّه.
فمثلاً: روى حمّاد بن سلمة أحاديث فى العقائد، وهو جليل القدر، ثقة زاهد، لكن عُرِف أنه قد يروى بالمعنى، ثمّ إنه قد يخطئ فى الفهم: روى الخليلى ت 446 هـ فى الإرشاد بإسناده إلى هشام بن على أنه قال: " كانوا يقولون: كان علم حماد بن سلمة أربعة دوانيق، وعقله دانقين، وعلم حماد بن زيد دانقين، وعقله أربعة دوانيق. " (الإرشاد فى معرفة علماء الحديث ج 1 ص 417).
وروى الخطيب بإسناده فى الكفاية عن عنبسة: قلت لابن المبارك: علمتَ أن حماد بن سلمة كان يريد أن يختصر الحديث، فيقلب معناه؟ قال: فقال لى: أو فطنت له ! " (الكفاية فى علم الرواية ص 192).
وقد ذكر النقّاد روايات رواها متّهمون بالوضع عن حماد بن سلمة – رحمه الله -، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - فى ترجمة " شيخ بن أبى خالد ": " شيخ بن أبى خالد عن حماد بن سلمة متهم بالوضع، فمن أباطيله عن حماد عن عمرو بن دينار عن جابر - رضى الله عنه – مرفوعًا: " كان نقش خاتم سليمان - عليه السلام - لا إله إلا الله محمد رسول الله. وبه: أهل الجنة مرد إلا موسى، فلحيته إلى سرته. وبه: الشعر فى الأنف أمان من الجذام ". رواها عنه محمد بن أبى السرى العسقلانى. انتهى.
وقال الحاكم وأبو سعيد النقاش: روى عن حماد أحاديث موضوعة فى الضعفاء وغيرها...
انظر: لسان الميزان ج 3 ص 159 (560)...
وقال ابن حجر: " شيخ مجهول دجّال، وروى بإسناده عن سليمان بن حرب قال: دخلت على شيخ وهو يبكى، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: وضعت أربعمائة حديث، وأدخلتها فى برنامج الناس، فلا أدرى كيف أصنع؟ قلت: هذا هو الشيخ بن أبى خالد. قال الحاكم: روى عن حماد بن سلمة أحاديث موضوعة فى الصفات وغيرها، والله أعلم. انتهى. وليس كما ظن، بل هذا رجل مبهم، وليس شيخ اسمه، بل وصفه. لسان الميزان ج 3 ص 160، (561).
فإذا ردّ الناس هذا من المرويات عن حمّاد – رحمه الله – يظنّ البعض أن ردّهم ذلك لأجل روايته ما يناقض العقل، والأمر ليس كذلك بهذا الإطلاق، وليس كون المتن غريبًا هو السبب فى ردّ الرواية، وإنما ظهور الأدلة والقرائن على خطأ الراوى هو ما ترّد به روايته.
والناظر فى الأحاديث أحيانًا يغفل عن هذا، ويسبق إلى ذهنه المعنى الظاهر الذى يدلّ عليه متن الحديث؛ حيث كان يتصّل بموضوع قد اعتيد فيه الخلاف بين المسلمين، مثل مسألة الصفات، فلا يعود يميز السبب الذى من أجله ردّ المحدّثون الحديث.
وهذا كما يردّده بعض المعاصرين حول رواية جعفر بن سليمان التى فى الصحيح عند مسلم، وأعلّها أبو الفضل الهروى – رحمه الله – فإنه لم يشر فى تعليله إلى مخالفة متن الحديث للعقل والنقل مطلقًا، بل قال: " حديث جعفر بن سليمان الضبعى عن ثابت عن أنس قال: " أصابنا مطر، ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحسر ثوبه عنه، وقال: إنه حديث عهد بربه ".
قال أبو الفضل: وهذا حديث تفرّد به جعفر بن سليمان من بين أصحاب ثابت لم يروه غيره.
وأخبرنى الحسين بن إدريس عن أبى حامد المخلدى عن على بن المدينى قال: لم يكن عند جعفر كتاب، وعنده أشياء ليست عند غيره.
وأخبرنا محمد بن أحمد بن البراء عن على بن المدينى قال: أما جعفر بن سليمان، فأكثر عن ثابت وكتب مراسيل، وكان فيها أحاديث مناكير.
وسمعت الحسين يقول: سمعت محمد بن عثمان يقول: جعفر ضعيف ". علل الحديث فى كتاب الصحيح ج 1 ص 86 – 87.
ومع ذلك فإن بعض المعاصرين يربط بين هذا التعليل – لو سلّم لأبى الفضل الهروى – وبين متن الحديث.
والحق أن الحديث رواه كثير من أئمة الحديث فى كتبهم من طريق جعفر بن سليمان، وفسّروه بما لا يخالف العقل ولا النقل.
والمقصود: أنه ليس من منهج المحدّثين ردّ الحديث اعتمادًا على المتن فقط دون ملاحظة الإسناد.
وأخيرًا: أنبّه إلى أنه قد يُقبَل ضعف الرواة فى باب دون باب، وتشدُّد المحدثين فى أبواب العقائد مشهور.
وهكذا نرجع إلى ما ذكرنا من أنّ حكم المتقدّمين يعتمد الدراسة المتكاملة للإسناد والمتن جميعًا.
(95) مقدمة ابن الصلاح ص 13 - 14.
(96) مقدمة ابن الصلاح ص 38.
(97) كل ذلك مفصّل فى بحث مختصّ ببيان ضوابط الحكم بالضعف.
(98) خلاصة الأحكام ج 1 60.
(99) بفضل الله حُرِّرَت هذه البحوث، ويبقى أن تنشر بإذن الله.