ما أحوجنا إلى تصحيح المسار فى تدريس علوم الحديث

أ .د / حمزة المليبارى

رئيس الندوة العالمية الدولية للسنة النبوية

وأستاذ الحديث بكلية الدراسات الإسلامية بدبى

العودة لصفحة المؤتمر 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد،

بادئ ذى بدء أود أن أعبر عن عميق شكرى وامتنانى لجمعية المكنز الإسلامى، على عملها الجاد الدؤوب فى توظيف الإمكانات المادية والمعنوية والتقنية فى خدمة السنة النبوية وإخراج أمهات كتبها كما وضعها أصحابها، مع سعيها للاستدراك على الأعمال السابقة فى مجال التحقيق والإخراج، وتسهيل طرق البحث فيها على الباحثين. وفى الحقيقة إن هذا المشروع يعد نموذجا رائعا للجهود الجماعية والأعمال المؤسسية التى يشارك فيها ثُلة من الباحثين المتخصصين، بإشراف محكم ومتجدد من شخص إلى شخص؛ حتى وصل إلى الأستاذ الدكتور أحمد معبد، صاحب الخبرة الطويلة فى التحقيق والإشراف. 

كما أشكر مسؤولى الجمعية على عقد هذا المؤتمر الدولى لخدمة السنة النبوية، برعاية الإمام الأكبر شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، وأخص بالشكر والتقدير فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد معبد على لطفه وتواضعه، حين ألح علىَّ لحضور هذا المؤتمر، وأنا أعرف - عن نفسى قبل غيرى - بأنى لست على هذه الدرجة التى تدعو إلى الإلحاح علىَّ فى الحضور. وعلى كلٍّ فهذا إكرام من فضيلة الشيخ أعتز به، ولا يسعنى إلا أن أدعو الله تعالى أن يتقبل منى ومنه ومن جميع المسئولين فى هذه الجمعية، ويوفقنا جميعًا لخدمة السنة النبوية خدمة تليق بمكانتها وتلبى حاجة المجتمع. 

ونظرًا لأهمية هذا المؤتمر الدولى الأول الذى تشارك فيه كوكبة من الباحثين والعلماء، وأهمية الموضوع الذى من أجله عقد هذا المؤتمر، فإنى أود أن أجعلَ مداخلتى تُثِيرُ اهتمامَ أهلِ التخصص فى الحديث الشريف وعلومه، وتَشُدُّ انتباهَهَم نحوَ القضايا المنهجية التى تمخَّضَتْ عنها جهودُ المحدثين النقادِ فى العصور الماضية، وبَرْهَنوا جيلًا بعد جيلٍ على دِقَّتها وواقِعِيَّتِها وفاعليَّتِها فى التعاملِ مع الحديث الشريف، تصحيحًا وتضعيفًا، وشرحًا وتأويلاً، وعملاً وتطبيقًا، وحفظِ السنة النبوية بعيدًا عن التصحيف والتحريف والانتحال والكذب والافتراء، وحتى عن الأوهامِ النادرةِ والغامضةِ التى وقعت من كبار الأئمة. 

وذلك لإبعادِ جِيلِنا عن التَّخلُّفِ الموروث فى طريقة تدريس مقررات الحديث الشريف، وتحصينه من الغزو الفكرى المُمَنْهج ضدَّ السنَّة النبويَّة، وعدمِ ضَياعِ طاقات الأُمَّة الإسلامية الهائلة فيما لا يُلَبِّى حاجةَ العصرِ، ولا يَسُدُّ الفراغَ الذى يُعانى منه مجالُ السنَّة النبويَّة عمومًا، ولا يُقَاوِم التحدِّيَّات مُقاوَمةً حَضاريَّةً وهادفةً، تنطلق من قوله تعالى {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ} [سورة النحل، الآية 125] الذى يأمر المسلمين أن يَتميَّزوا ويَتفوَّقوا على الآخرين بكونهم أحسنَ منهجًا، وأعمقَ تأثيرًا، وأكثرَ إقناعًا، وأعظم صبرًا، إن أرادوا الإصلاح والتجديد. 

هذا، وقد أصبحت خدمةُ السنَّةِ النبويَّةِ وعلومِها بشتَّى وَسَائلِها؛ التقليديَّة والتقنيَّة، محلَّ اهتمامٍ بالغٍ لدى كثير من الباحثين المعاصرين؛ تعليمًا أو تأليفًَا أو تحقيقًا، على اختلاف المستويات، وشهدت الأقطارُ الإسلاميَّةُ تنافُسًا شديدًا، فى تأسيس المراكز الثقافية والمؤسسات التعليمية والجمعيات الخيرية، التى تُعنى بتكريس إمكاناتها الماديَّةِ والمعنويَّة فى تعليم الحديث وعلومه. 

ومما لا شك فيه أن هذه الجهود العظيمة تتوسَّعُ دائرتُها يوما بعد يوم، وتُطَمْئِنُ الأُمَّةَ الإسلاميَّةَ بأَنَّ أفرادَها يملكون طاقاتٍ هائلةٍ؛ تُمَكِّنُهم مِنْ مُواكبةِ التطورات واقتحامِ العقباتِ ومواجهةِ التحدِّيَّاتِ، من أجل أن تبقى السنَّةُ النبويَّةُ محفوظةً ومحصَّنَةً وقويَّةً تتحطَّم عليها محاولاتُ التشكيكِ، وإثارةُ الشبهاتِ، لكنها ما زالت تفتقر - فى تحقيق ذلك بصورة أكمل - إلى ترشيدٍ أكاديمى، وتوجيهٍ منهجى مُحْكَمٍ. 

وهذا ما نفهمه من تقييم الواقع الذى نعيشه، ونوعية المُخْرَجَات فى المؤسَّسات التعليمية؛ إذ نرى كثيرًا من الباحثين يدافعون عن السنَّة النبويَّة بأسلوبٍ تغلبُ عليه - فى بعض الأحيان - حالةُ انفعالٍ أو غضبٍ أو تعصُّبٍ، بعيدًا عن الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتى هى أحسن، ونرى الأعمال العلمية السائدة اليوم - سواء فى مجال التدريس أو فى تحقيق التراث أو فى الدراسات والبحوث - لا يَعْكِس أكثرُها الدِّقَّةَ العلميَّةَ المعْهودةَ عن المُحَدِّثين - سواء أكانوا فى العصور الأولى؛ عصور الرواية، أم فى العصور المتأخرة؛ عصور ما بعد الرواية- الأمرُ الذى استغلَّهُ بعضُ المجموعات والطوائف داخلَ الأُمَّة وخارجَها - لا سيَّما المستشرقون غير المنصِفِين- لتوجيه تُهَمٍ نَحْوَ المحدِّثين، وإثارةِ شُبهاتٍ حول مصادر الحديث ومِصداقيَّتِها، كما استغلوا ذلك لاستدراكهم على نقاد الحديث بمنهجٍ، يزعمون أنه متكاملٌ بجميع عناصر النقد، بحجة أن النظرة السطحية المتمثلة فى الجرح والتعديل هى التى تُشَكِّلُ أهمَّ معاييرِ النقدِ لدى المـُحَدِّثِين.

* فهل الجرحُ والتعديلُ وأحوالُ الرواة -فعلا- تُشَكِّلُ أهمَّ معايير النقد لدى المحدِّثين النقَّادِ؟ 

* هل كان المحدِّثون شكليِّين وسطحيِّين إلى هذه الدرجة؟ 

* هل كانت أعمالُهم وأقوالُهم فى مجالِ النقدِ تدُلُّ على ذلك؟ 

* هل هذا هو الذى تضمنته كتبُ المصطلح؟ 

* أم أنَّ الجرح والتعديل من النتائج التى تمخَّضت عنها جهودُ المـُحَدِّثين فى النقد، ثم استثمروه حتى صار عِلْمًا ليفيد عند الحاجة إليه؟ 

* أليس منهجُهم فى النقد قائمًا على الجمع والمقارنة والترجيح فى ضوء القرائن العلمية الواسعة؟ 

* ألا يدلُّ على ذلك عملهم فى نقد المرويات وتحقيق النصوص؟ 

هل علوم الحديث مجرد مصطلحات وتعريفات؟ 

مما لا شك فيه أن علوم الحديث ليست مجرد مصطلحات تطلق وتردد، وتعريفات تحفظ عن ظهر قلب، بل إنها أوعية تحمل فى داخلها قضايا منهجية مهمة، تمخضت عنها جهود المحدثين فى حفظ السنة النبوية سواء أكانت فى عصر الرواية أم فى عصر ما بعد الرواية. فمن هذه القضايا المنهجية ما يتعلق بنقد المعلومات ونقدِ أَصحابِها، ومنها ما يتصل بتحليل النصوص وفقهها، ومنها ما يعنى بتوثيق الأخبار وتحقيق مصادرها المخطوطة وتقييم محتواها. إذن نكون فى أشد الحاجة إلى استيعابها، وإبراز خصائصها من دقة وشمولية؛ إن كنا نريد حفظ السنة النبوية فى هذا العصر الذى تكثر فيه دراسات غير منهجية تسيء إلى سمعتها، أو محاولات ممنهجة تشكك فى مصداقيتها.

بما أن هذه القضايا المنهجية هى التى كانت تشكل خلفية علمية لنُقَّاد الحديث لاستخدام مصطلحاتهم النقدية؛ مثل صحيح وحسن وضعيف ومنكر ومدرج ومقلوب ومعلول ومدلس، وغير ذلك من مصطلحات علوم الحديث، فإن شرحها لا ينبغى أن يكون شكليًا يقتصر على إملاء ما ورد فى تعريفاتها من أقوال، ويشجع الطلبة على حفظها عن ظهر قلب بدافع النجاح فى الامتحان، بل يجب أن يكون شرحها تحليلا علميا وتطبيقيا يعينهم على فهم ما تنطوى عليه هذه المصطلحات من قضايا منهجية كان نقاد الحديث يعولون عليها فى نقد الأحاديث ورواتها، وينمى فيهم مهارات ذهنية فى التفكير والمناقشة، والجمع والمقارنة والترجيح فى ضوء الأدلة مع الاحترام والتقدير، وبعيدًا عن التعصب والتقديس والاستفزاز والتعالى.

والمتتبع لما يصدر اليوم من الأبحاث والدراسات والتحقيقات يتبين أن أكثرها بعيدة عن تلك القضايا المنهجية؛ إذ درج أكثر الباحثين على الحكم على الأحاديث حسب مراتب الرواة فى الجرح والتعديل، بحيث يوهم أن الحكم على الأحاديث تابع لأحوال الرواة، وأن تحقيق المخطوطات لم يكن سوى مقارنة بين النسخ وتسجيل الفروقات بينها، مع تخريج الأحاديث وتوثيق النصوص وترجمة الرواة والأعلام. 

ومن العجب العجاب أن نرى بعض الباحثين يزاحم صفوف النقاد، ويعترض عليهم بأشياء لا تخفى على المبتدئين، كأن حالهم ينطق: نحن رجال وهم رجال، وكم ترك الأوائل للأواخر، حتى قال أحد الباحثين المتخصصين - وهو فى غمرة غضبه وانفعاله -: 

لو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة حتى البخارى دراسة وافية لما تجاوزوا النتائج التى توصلت إليها، لأنى بحمد الله طبقت قواعد المحدثين. ثم وجدت الرجل يدافع عما قال، متهما من خالفه بأنه يقدس الأشخاص ويجعلهم آلهة!!. 

فما هذه القواعد التى طبقها هو وغفل عنها جهابذة المحدثين؟ هى أن يحكم على الحديث وفق أحوال الرواة، ومراتبهم فى الجرح والتعديل، فينظر فى الإسناد ثم يترجم راويًا راويًا، مع تلخيص مراتبهم فى الجرح والتعديل حسب تقريب التهذيب، فإذا وجدوا الرواة كلهم ثقات صححوا الرواية. وإذا كان فيهم صدوق حكم على الإسناد بأنه حسن لذاته، وإذا توبع هذا الصدوق حكم عليه بأنه صحيح لغيره. وإذا كان فى الإسناد ضعيف غير متهم أصبح الإسناد ضعيفًا، وإذا تُوبع قال بأنه حسن لغيره. وإن كان متهما أصبح الحديث متروكًا ولا يتقوى، وإذا اعترضت فى طريق هذا الباحث مطبات وحفر جاوزها بقفزة جريئة. ويقول: قد وجدت له متابعًا. ولا يهمه أن هذا المتابع قد ذكر فى كتب الضعفاء لبيان خطئه ونكارته!!.

هل هذه هى قواعد المحدثين؟ كلا، وهذه ليست هى القضايا المنهجية التى تكمن وراء المصطلحات، ولو كان منهج المحدثين النقاد، وعملهم فى حفظ السنة قائمًا على هذه النظرية السطحية ما ظهرت المصطلحات: مثل المنكر والمعلول والمقلوب والمصحف والمدرج والشاذ والمضطرب. وما ظهر أصلاً أنواع الانقطاع الخفى؛ التدليس وتدليس التسوية وتدليس القطع وتدليس الشيوخ وتدليس العطف!! وإن دلت هذه المصطلحات على شىء فإنما تدل على أن المحدثين لم يكتفوا بظواهر السند، بل يعتمدون على الجمع والمقارنة والترجيح فى ضوء خلفياتهم العلمية الواسعة، حتى اكتشفوا ما وقع فيه كبار الأئمة من الأخطاء والأوهام النادرة، وبيَّنوا نوعية هذه الأخطاء والأوهام، كما اكتشفوا الانقطاع الخفى بين راويين متعاصرين يكون أحدهما شيخًا والآخر تلميذًا. 

يقول أبو حاتم " وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا " (1).

ويقول الحاكم " إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط، وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث ".

وقال أيضًا " الحجة عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير " (2).

وقال البيهقى " هذا النوع من معرفة صحيح الحديث من سقيمه لا يعرف بعدالة الرواة وجرحهم وإنما يعرف بكثرة السماع ومجالسة أهل العلم بالحديث ومذاكرتهم والنظر فى كتبهم والوقوف على روايتهم حتى إذا شذ منها حديث عرفه " (3).

وجاء الحافظ ابن رجب يلخص كل هذه النصوص فى عبارة جامعة، إذ قال: لهم فى كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه. (4) يعنى قاعدة مطردة تطبق فى جميع الأحاديث.

وأكد ذلك الحافظ ابن حجر بقوله " صحة الحديث وحسنه ليس تابعًا لحال الراوى فقط، بل لأمور تنضم إلى ذلك من المتابعات والشواهد وعدم الشذوذ والنكارة " (5)

ومن المعلوم أن الحافظ ابن حجر من أبرز العلماء الذين خدموا علم الجرح والتعديل ولخصوا مراتب الرواة فيهما، ومع ذلك قال " صحة الحديث وحسنه ليس تابعا لحال الراوى ".

هذه هى القضايا المنهجية التى تتسم بدقة وشمولية وإنصاف، وهى التى تكمن وراء مصطلحات الحديث؛ لذلك يجب على كل باحث فى مجال الحديث والتحقيق أن يستوعبها وينتصر لها - نشرًا وتعليمًا وتطبيقًا -.

أما تحقيق المخطوطات فكأنه باب مفتوح أمام الجميع! والمتأمل فى الكتب المحققة يرى أن كثيرًا من الباحثين يظنون أن التحقيق هو مجرد مقارنة بين النسخ التى جمعها، وتسجيل الفروقات بينها، مع تخريج النصوص وتوثيقها وترجمة كل من ورد فيها من الرواة والأعلام! ولذا نجد بينهم تنافسًا ساخنًا فى تحقيق التراث وحرصًا شديدًا على إخراجه قبل الآخر، وظهرت مئات الكتب المحققة على هذا الشكل الذى لم يحترم قواعد التحقيق بل أبجدياته، وتبوأت مقاعدها فى رفوف المكتبات!!.

كما يؤسفنا أن نقول إن كثيرًا من التحقيقات التى ينجزها الطلبة فى إطار الماجستير أو الدكتوراه أحيانًاأوأ فى المؤسسات التعليمية لا يختلف حالها كثيرًا عما ذكرت. هل هذا هو الذى يعلمنا علوم الحديث؟ وهل هذا الأسلوب هو المتبع فى التحقيق العلمى؟ وهل تتم بذلك خدمة السنة النبوية؟ وإن كانت النية صالحة فإنها لا تبرر التقصير فى العمل ومزاحمة الميدان دون تأهل.

كيف يتم تصحيح المسار فى تدريس علوم الحديث

المتتبع لكتب المصطلح مع المقارنة بينها، يتبين له أنها لم تكن على أسلوب واحد فى العرض والترتيب والمعالجة؛ بل تعرضت لتطور مستمر وفق مقتضيات العصور؛ فقبل ابن الصلاح لم تكن أنواع علوم الحديث مجموعة ومنسقة فى كتاب واحد، ومع ذلك فكتب المصطلح غلب عليها أسلوب الرواية، ولم تكن المصطلحات فيها مصحوبة بتعاريفها المنطقية. فجاء ابن الصلاح فألف مقدمته بأسلوب جديد يختلف عن أساليب الكتب السابقة، ويعد ذلك نقطة تحول كبير فى تأليف علوم الحديث، إذ قام بجمع معظم أنواع علوم الحديث من مصادر متنوعة، ووضع لكل نوع منها تعريفًا خاصًا وفق شروط علم المنطق. ثم جاءت خطوة أخرى تجديدية لترتيب الأنواع حسب الإسناد والمتن، والمقبول والمردود، وما زالت الكتب محل تجديد وتلخيص وشرح واختصار.

ومهما كان الأمر فى الترتيب والتلخيص، فإن مستجدات عصرنا تفرض علينا أن نركز على إبراز القضايا المنهجية التى تكمن وراء المصطلحات، وننمى فى الطلبة مهارات ذهنية فى التفكير والتحليل والاستنتاج، بدل أن ننمى فيهم مهارات الحفظ من أجل الامتحان؛ وذلك من أجل إعداد جيل قادر على الدفاع عن السنة النبوية دفاعا منهجيا وحضاريا، بعيدا كل البعد عن الانفعال والغضب والتعصب، حتى نبرهن على أننا خير خلف لخير سلف، وأننا أصحاب منهج وإبداع. وكيف لا يكون ذلك، وكتبنا ومقرراتنا الدراسية كلها قائمة على مناهج متنوعة: منهج التحليل ومنهج النقد ومنهج التحقيق والتدقيق ومنهج التعامل مع الآخرين، وغير ذلك من المناهج. 

ولا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا قمنا بتغيير طريقة التدريس التقليدية التى تشجع الطلبة على حفظ ما يمليه الأستاذ، وبتغيير المنهج الدراسى الموروث، وفق ما يقتضيه منا عصرنا؛ ومن أجل لفت الانتباه إلى ذلك أقترح فى هذا الصدد ما يلى: 

علينا أن نقوم بترتيب أنواع علوم الحديث ومصطلحاتها، ترتيبًا يعين الطالب على استيعابه أكثر للقضايا المنهجية التى تضمنتها المصطلحات، ويكون التركيز فى التدريس على إبراز تلك الجوانب المنهجية، ليس فقط فى علوم الحديث، بل فى جميع المقررات الحديثية لكونها مصادرَ ثَرَّة لتنمية المهارات الذهنية لدى الأجيال، ليكونوا أصحاب منهج وعقل وإنصاف وحيطة وسلوك. 

ولذلك - فيما يبدو لى - يكون الأفضل ترتيب أنواع علوم الحديث على الوحدات الموضوعية؛ وبالتالى فإن كل مصطلح يشترك فى موضوع ما يكون مذكورًا فى مَوْضِع واحد، دون أن يتفرق فى أماكن مختلفة. وعلى الأستاذ أن ينطلق من بيان الموضوع إلى ذكر المصطلحات التى تطلق فيه وتعريفاتها. وهذا الأسلوب يكون أقرب إلى فهم المصطلح وما يتضمنه من قضايا منهجية؛ كما نلمس ذلك فى نخبة الفكر، عوضًا عن التركيز على ذكر المصطلح وتعريفه دون أن يفهم ما يكمن وراءه من قضية منهجية.

وعلى هذا يمكن تقسيم علوم الحديث على أربع وحدات موضوعية، وهى: 

* ما يتعلق بطرق التحمل والأداء.

* ما يتعلق بالنقد (نقد المرويات). 

* ما يتعلق بالجرح والتعديل (نقد الرواة). 

* ما يتعلق بفقه الحديث. 

أما ما يتعلق بالنقد فينقسم إلى ثلاثة أقسام حسب الموضوع، وهى: 

* ما تَبَيَّن للناقد صوابه. 

* ما تَبَيَّن للناقد خطأه. 

* ما لم يَتَبَيَّن له صوابه ولا خطأه. 

إن هذا التقسيم فيما أرى واقعى وفاعلى أيضا؛ إذ يدعو الدارس إلى الانطلاق من الموضوع إلى ما يستعمل فيه من مصطلحات، وبالتالى تصبح المصطلحات جلية وواضحة، وما تنطوى عليه المصطلحات من قضايا منهجية يكون واضحًا أيضًا. 

وعلى سبيل المثال مصطلح الصحيح، يمكن أن نبدأ فى هذا المصطلح ببيان الموضوع الذى يتعلق به من خلال الأمثلة الواقعية المألوفة لدى الطالب، وهو أن الخبر لما تَبَيَّن صوابه للمخاطب عبَّر عنه بلغة واضحة، وكذلك حين تَبَيَّن للناقد صواب نقل الحديث عن مصدره، وأن الراوى لم يكن مخطئا حين رواه عن شيخه فإنه يعبر عنه بما يدل على ذلك، وأشهره لفظًا (صحيح). 

وهنا تأتى مناسبة لطرح تساؤل: كيف يتبين للناقد أنه صواب، وأن الراوى قد نقل ما سمعه من شيخه دون خطأ ولا وهم!، وهل ذلك مجرد تخمين أم إلهام، أم فى ضوء منهج متكامل لا ينقصه أى عنصر من عناصر النقد؟ 

وهذا بلا شك يمهد لنا الدخول فى تعريف الصحيح، لنحلل ما ورد فيه من التعريف. وبذلك نكون قد حققنا نتائج عدة، منها التعرف على منهج النقاد فى التصحيح، ودقة هذا المنهج وشموليته، مع وضوح معنى مصطلح الصحيح، وإن لم يحفظ الطالب تعريفه المصاغ حسب المنطق؛ فإن المهم هو فهم ما يتضمنه هذا المصطلح الذى استعمله النقاد من قضية منهجية.

وبهذا الشكل أعددنا محاضرات ودروسًا على (الباوربوينت)، وإذا سمحتم لى سأعرض نموذجًا من هذه المحاضرات، والغاية من ذلك هو شد الانتباه إلى ضرورة التطوير وتصحيح المسار؛ حتى وإن كنتُ مخطئًا فى ذلك؛ فإنه يكفينى أن أثير الموضوع للمناقشة، عسى أن نهتدىَ إلى منهج أدق، فإن عقولا مجتمعة أقوى وأنفع من عقل مفرد. 

أما ما يتعلق بعلم الجرح والتعديل فمسائله ومصطلحاته مرتبة ومنسقة قديمًا، ولم تكن مشتة، لكن الذى أدعو إليه هو ضرورة التركيز على تأسيس منهج صحيح للتعامل مع ألفاظ الجرح والتعديل، نظرًا لكونها قد وردت من قِبَل النقاد حسب مناسبات مختلفة، الأمر الذى يؤدى إلى ظهور اختلاف وتعارض بين ألفاظ الجرح والتعديل. 

ومن المعلوم أن الناقد قد يكون مازحًا مع أحد الرواة، أو مادحا أو غاضبًا، أو مجيبًا عن سؤال محدد، أو مركِّزًا على مناسبة خاصة تتعلق برواية حديث ما، أو غير ذلك، الأمر الذى يدعو بإلحاح إلى تأسيس منهج صحيح من شأنه أن يجعل الباحث يبحث عن مناسبة صدور لفظ الجرح والتعديل من الناقد من خلال الجمع والمقارنة، ومعرفة سياق كلامه ليفهم ما قصدوا، وبالتالى فإن كثيرًا من الألفاظ التى يوهم ظاهرها أنها متعارضة لا تنطبق عليها بعد التحليل مسألة تعارض الجرح والتعديل.

وإذا تتبعنا كثيرًا من الدراسات والأبحاث وجدنا فيها ظاهرة التعامل غير المنهجى مع ألفاظ الجرح والتعديل، ويطبقون فيها مسألة تعارض الجرح والتعديل على إطلاقها، ويفسرون ألفاظهما بطريقة لا تحترم منهجية التعامل الصحيح معها.

أما موضوع طرق التحمل والأداء فله أهمية كبيرة نظرًا لكونه يتضمن مدى عناية المحدثين بما يتعلق بقواعد نسخ الكتاب ومقابلته وقراءته على الشيخ، ومدى اهتمام المراكز العامة - التى تكون غالبا تحت إشراف الدولة - بالاحتفاظ بأسماء من سمع الكتاب وقرأه وحضر مجلس ذلك مع التاريخ، ومن هنا تكون طباق السماع التى يلجأ إليها المحدثون من أجل حفظ الكتب بعيدًا عن التصحيف والتحريف والانتحال والتداخل، ولا تختلف أهميتها فى حفظ السنة عن أهمية الإسناد بالنسبة إلى الحديث. 

وخلاصة ما أقول إن تحقيق التراث يقتضى من المحقق أن يبذل قصارى جهده لإخراج الكتاب كما وضعه المؤلف، وهذا يقتضى منه دراسة طباق السماع المثبتة إما فى الغلاف أو فى آخره، بعناية فائقة، مع الاهتمام بدراسة آثار المقابلة والقراءة التى تظهر فى الحواشى، وهذه الأمور تحتاج إلى ممارسة وخبرة وفهم وقدرة على تحليل. 

ثم بعد ذلك يكون من الأفضل بل من الأهم أن يقوم المحقق بدراسة محتوى الكتاب دراسة تقييمية ومجردة عن العواطف والتقديس، وبذلك يكون المحقق قد قدم خدمة جليلة للسنة النبوية وحفظ تراث الأمة، وترى الأمم مدى دقة عمل المسلمين فى التعامل مع النصوص والكتب، وأن علماء الإسلام هم الذين أبدعوا منهج التحقيق وفن الفهرسة. 

وأما مقرر الحديث التحليلى فلا بد أن نسعى لتطوير طريقة تدريسه، ليتم لنا تكوين الطلبة تكوينًا منهجيًا وأخلاقيًا فى التعامل مع النصوص الحديثيَّة بل مع جميع النصوص، ونعلمهم القراءة الصحيحة للنصوص. 

ومن الجدير بالذكر أن شروح الكتب لأئمتنا قائمة على قواعد التحليل، لكن حين نؤلف كتابًا فى الحديث أو الحديث التحليلى نسعى دائمًا للاستفادة منها فيما يتعلق بمعانى الكلمات الغريبة، والمعنى العام، والمسائل المستنبطة، ولا نستفيد ما يتعلق بمنهجهم فى الشرح، والهدف من ذلك أن ننمى فى الطلبة قدرة التركيب والبناء بعد التحليل والاستنباط.

ذلك ما أريدُ إثارتَه وإثْرَاءَه فى هذا المؤتمر الدولى الأوَّل الذى خُصِّص من أجل خدمة سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، عسى أن يكون له صدًى لدى علماء الحديث المعاصرين عاجلاً أو آجلاً. 

والله تعالى الموفق.

 

                                                      أ. د حمزة عبد الله المليبارى 

                                                       كلية الدراسات الإسلامية والعربية - دبى

 

 العودة لصفحة المؤتمر 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

 1 - مقدمة الجرح والتعديل (1/350).

 2 - معرفة علوم الحديث ص: 59-60 ( تحقيق لجنة إحياء التراث العربى، ط: 4، سنة 1400هـ، دار الأفاق).

 3 - معرفة السنن والآثار (1/144).

 4 - شرح العلل ص: 208 ( تحقيق صبحى السامرائى، ط: 2).

 5 - النكت (1/404).