أهمية جمع المخطوطات فى تحقيق كتب السنة .. وضوابط اختيارها 

أ .د / عبد العزيز بن محمد الفريح

رئيس قسم فقه السنة ومصادرها بكلية الحديث

الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

 العودة لصفحة المؤتمر 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، نبينا محمد وعلى آله الطيبين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد . .

فإن الأممَ على اختلاف مشاربِها تُعنَى بالحفاظِ على تراثها وعنوانِ هويَّتِها، وتحافظُ على ثقافتها ومعالم حضارتها، وتعملُ على نقل تراثها من جيل إلى آخر ؛ اعتزازًا بذلك التراث وتخليدًا لتلك الثقافة، وهذا أمرٌ أطبقت عليه الحضارات على مرّ العصور، وأضحى من الوفاء للماضى، واستثمارًا للجهد المبذول على جميع الأصعدة، لا سيما على صعيد البحث العلمى، حيث دأبت المجتمعات المختلفة على العناية بتراثها الفكرى وخدمته وتنميته، وإبرازه على شكلٍ يليق به ؛ ليكون قاعدةً لما يأتى بعده من بناء، إلا أن الحضارة الإسلامية تميَّزت فى ذلك عن غيرها كونها تنطلق فى محافظتها على تراثها من منطلقٍ شرعىٍّ يأمر بحفظ العلم ونشره وتعليمه .

فمنذ بزوغ فجر الإسلام ارتبطت رسالته بالعلم والدعوة إليه، وكانت فاتحته {اقْرَأْ}[سورة العلق، الآية 1] ؛ فلا غرْوَ أن تكون أمَّةُ الإسلامِ أمَّةَ العلم، والآخذة بناصيته، ورائدةً فى ذلك، لا سيما وأنها ترى فى ذلك واجبًا شرعيًا، فصرفوا فيه جهدهم، وأفنوا فيه أعمارهم، وحفظوه فى صدورهم وسطورهم، وامتلأت خزائن المكتبات ودُور العلم من تواليفهم وإبداعاتهم .

والتراث الإسلامى يزخَرُ بكنوزٍ نَفِيسةٍ وذخائرَ عظيمةٍ تتمثَّل فى ذلك الكمِّ الهائل من الإرث التليد الذى خلَّفه السلفُ، وخطّتْه أناملُهم، وجادت به قرائحُهم، وأبدعت فيه عقولُهم، وسطَّروا فيه مجدَ أمَّتِهِم، وعنوانَ حضارَتِهم، وقبل ذلك كلِّه خدموا فيه دينهم، وبيَّنوا فيه شرع ربهم، وحفظوا من خلاله إرثَ نبيِّهم صلى الله عليه وسلم .

وإن من أنفس المصادر العلمية " المخطوطات العلمية " التى تعتبر الأصل فى الرجوع إلى المعلومة الصحيحة ؛ لما تتميز به من خصائص . ورغم تلك المميزات التى تتمتع بها، وما تحويه من تراث ضخم وعلم غزير؛ إلا أنها لم تنل حظَّها الكافى من الخدمة والاهتمام .

وإذا كان جمعُ المخطوطات وحفظُها يُعدُّ وفاءً للعلم والعلماء، وقيمةً حضاريةً عند الأمم جميعها - فإنه عند المسلمين واجبٌ شرعى، وعملٌ دينى، ويدخل ضمن إطار الأمر بالعلم ؛ لما فيه من نشر العلم وتعليمه وإظهاره للناس، فكمْ حَوَتْ هذه المخطوطاتُ من أحكام شرعية، وتوجيهات نبوية، وآدابٍ مرعية، ومع ذلك لا تزال هذه المخطوطات حبيسة المكتبات، ورهينة المتاحف فى شتى بقاع الأرض تنتظر همَّةً عاليةً وعزيمةً صادقةً تنفضُ عنها الغبار، وتُخرجها إلى متناول الباحثين والقراء.

وقد ذكر الماجد أنه يوجد فى العالم من المخطوطات العربية والإسلامية أكثر من خمسة ملايين مخطوطٍ ولم يحقق منها إلا معشار العشر تقريبًا . 

والحقيقة أن فوائد تحقيق التراث لا تقتصر فى المعلومات العلمية التى يتضمنها ؛ بل تتحقق من خلاله فوائد كثيرة، منها: التعرف على بيئة المؤلف المحيطة به، والعصر الذى عاش فيه، وظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية، والإحاطة بمعطيات الكتابة فى العصر الذى دُوَّن فيه النص من حيث أشكال الخطوط ومصطلحات الترقيم والرموز، وملامح الفكر فى هذا العصر، مع الإلمام بثقافة المؤلف نفسه وشيوخه ومؤلفاته . . والأمور التى أثَّرت فى شخصيته .

ومن المعلوم عند أهل الاختصاص أن إبراز المخطوطات وتحقيقها لا يقلُّ أهميَّةً عن تأليف عملٍ بحثى جديد؛ بل فى ذلك خدمة جليلة للعلم، ونصح للمسلمين، لاسيما فى علوم الشريعة . والأصل فى تلقى العلوم الشرعية هو التلقى مشافهة، وعندما تطوَّر الأمر إلى الكتابة والتدوين أصبحت الحاجة ملحة إلى التحقق من المكتوب وتمحيصه .

وتأتى السنة النبوية وعلومها على رأس الهرم العلمى، فهى أشرف العلوم قدرًا وأعظمها ذكرًا بعد كتاب الله، وقد اعتنى بها علماء الإسلام حفظًا وجمعًا وتأليفًا وشرحًا وتعليمًا، ورصفوا فيها قلائد الحسان من درِّ الجمان، وفرائد من سنة ولد عدنان، أودعوها كتبهم، وضمَّنوها تواليفهم . ومن حقِّ الأولين على الآخرين، ومن وفاء اللاحقين للسابقين إخراج كنوزهم، ونشر علومهم، وإظهار إبداعهم، وقبل هذا كله نشر سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وسيرته .

وقد أحسن الإخوة - فى جمعية المكنز الإسلامى - بتفكيرهم فى هذا المؤتمر العلمى لخدمة دراسات السنة النبوية، فلهم منا الشكر الجزيل، وأحببت أن أشارك بورقة علمية مختصرة حول محور: " أهمية جمع المخطوطات فى تحقيق كتب السنة وضوابط اختيارها " وقد نهجتُ فيها الاختصار ؛ نظرًا لما يقتضيه الحال.

تعريف المخطوط: 

لفظة"مخطوط" فى اللغة تعنى: كل ما كتب بخط اليد سواء كان كتابًا أو وثيقة أو نقشًا على حجر ..، وفى الاصطلاح العلمى: يقتصر على الكتاب المكتوب بخط اليد لا يتجاوزه إلى غيره من الأشكال المخطوطة، ويسمى "المخطوط" تمييزًا له عن الكتاب المطبوع، ويعنى (كل كتاب قديم كتبه مؤلفه بخط يده أو خطه تلاميذه أو أحد النساخ من بعدهم ) .

تعريف التحقيق: 

التحقيق فى اللغة له معان عدة، منها: الإحكام والضبط والتصحيح والتدقيق .

وفى الاصطلاح وردت فيه تعريفات عديدة ومتقاربة منها: 

* إخراج المخطوط بشكل صحيح كما وضعه مؤلفه مقروءً مفهومًا وفق معايير منهجية معينة .

* بذل الجهد حول صحة العناصر الموجودة فى " المخطوط " الكتاب المحقق، حتى يمكن التثبت من استيفائه لشرائط معينة .

أهمية جمع المخطوطات فى تحقيق كتب السنة: 

يعتبر تحقيق النصوص فنًا إسلاميًا أصيلًا، وضع أسلافنا أصوله منذ أن زاولوا العلم . يقول الأستاذ على النجدى فى كتابه (سيبويه إمام النحاة) " كانت للمسلمين القدماء عنايةٌ ملحوظةٌ بضبط النصوص والمحافظة على صحتها، وكانوا يَرْوُون أخبارها بالسند حتى يرفعوها إلى أصحابها على نحو ما كانوا يصنعون بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وينسبون نسخ الكتب التى يكتبونها فرعًا إلى أصل، حتى يبلغوا بها أوائلها التى تحدَّرت منها، وكانوا يقرؤونها مُعارَضةً على الأصول التى ينقلون عنها " .

وكان حرصهم ذلك نابعًا من التأكد من النُّسخ والناسخين ؛ لأنهم كانوا يرون ذلك دينًا، لا سيما مع كثرة الناسخين والورَّاقين، وتعدد النسخ لمؤلَّفٍ واحد، وبعض الناسخين لم يكن من أهل الاختصاص ؛ مما أضعف الثقة ودعا إلى مزيد من التحرى والدقة، فظهر ما يعرف بالمصححين الذين يقومون بضبط النصوص وتصحيحها ؛ ولكن ذلك كان عملاً فرديًا، ويفتقد إلى منهجية علمية .

وقد ظهر فى عصر الطباعة انتشار العدد الكبير من الكتب والمراجع المطبوعة طباعة تجارية لا تعتمد على الأصول العلمية فى النقل والتدقيق، واتسمت بالتصحيف والتحريف، والنقص والتقصير، وأقلُّ ما يقال فيها أنها اعتمدت نسخًا غير أصيلة أو غير كاملة، مع العلم أن الخطأ أو التحريف فى نصًّ حديثىٍّ قد ينجرُّ إلى أحكامٍ شرعية تُبنى عليه .

ومن هنا تأتى أهمية جمع المخطوطات فى تحقيق كتب السنة، لإخراج المخطوط بالصفة التى كتبه بها مؤلفه صحيحًا مقروءً، وحتى يتسنى ذلك لا بد من جمع النسخ المتعلقة بالمخطوط لا سيما الأصيلة منها للوقوف على التفاوت الموجود فيها، واعتماد الصحيح، من خلال منهجية علمية معروفة فى فن تحقيق النصوص .

وهنا تتأكد المسؤولية على الأقسام العلمية والمراكز البحثية فى تشجيع البحوث ذات الصلة بتحقيق التراث، وتسهيل عمل الباحثين، والتنسيق مع الجهات المعنية بحفظ المخطوطات .

ضوابط اختيار المخطوط: 

لا تختلف المخطوطات فى علوم السنة عن غيرها من حيث الشروط والضوابط فى اختيارها، فهناك ضوابط تتعلق بالمخطوط (موضوع الدراسة)، وضوابط تتعلق بالدارس للمخطوط، وسوف أشير إليها بشكل مختصر.

* الضوابط المتعلقة بالمخطوط (موضوع الدراسة): 

1. القيمة العلمية والفنية للمخطوط، وما يتميز به من معلومات فى التخصص، وما يمكن أن يضيفه للحركة العلمية .

2. المكانة العلمية للمؤلِّف وشهرته وأثره فى التخصص، وثراؤه المعرفى .

3. أقدمية المخطوط وقيمته الزمنية ؛ لأنه من المقرر أنه كلما كان المخطوط أقرب من زمن المؤلف كلما زادت قيمته ودقَّته .

4. مناسبة المخطوط للمرحلة الدراسية للباحث من جهة، ومناسبته لمقدرة الباحث العلمية من جهة ثانية، وتوافقه مع المدة الزمنية المتاحة للبحث من جهة ثالثة .

5. توافر النسخ الكافية للمخطوط، مع وجود النسخة الأم التى تعتمد كأصل، وهى التى كتبها المؤلف بخطِّ يده، أو قَرِئَت عليه وصححها، أو نُقلت من نسخته الأصلية، أو صححها الأئمة الحفاظ المتقنون . ولا يمكن العمل على مخطوط من نسخة واحدة ؛ إلا إذا لم تكن الوحيدة وتكون الحاجة إليها ملحة ؛ لأن الناسخ ربما سقطت منه بعض الكلمات سهوا، وقلما تسقط الكلمة نفسها من كلتا النسختين، فالنسخة الأخرى تتمم ما سقط من الأولى .

6. ألا يكون المخطوط قد تمَّ تحقيقه من قبل وخرج مطبوعًا، ويستثنى من ذلك أن يكون الكتاب مفقودًا، أو نادر الوجود، أو كانت الطبعة سقيمة ومليئة بالتصحيف والأخطاء، أو خالية من التعليقات والفهارس العلمية المعينة على الوصول للمعلومة بسهولة، فحينئذ يمكن إعادة تحقيق الكتاب .

* أما الضوابط والشروط المتعلقة بالدارس للمخطوط فعديدة ومن أهمها ما يلى: 

1 – معرفة أماكن وجود نسخ المخطوط، والإلمام بمعطيات النظام اللغوى بنية وتركيبًا ودلالة وأسلوبًا .

2 – الإحاطة بمعطيات الكتابة فى العصر الذى دُوِّن فيه النص ؛ من حيث أشكال الخطوط وأحجامها وأنماطها، وإعجام الحروف وإهمالها، وعلامات الأداء وهيئاتها، ومصطلحات الترقيم والرموز .. .

3 – الوقوف على موارد ثقافة المؤلف والاطلاع على المؤلفات الأخرى للمصنف .. .

4– الاطلاع على ما كُتِبَ فى مجال النص ودائرته العلمية الدقيقة، وبخاصة الأصول التى أخذ منها المؤلف أفكاره ومادته العلمية، ومصطلحات الفن .

5- عدم الإخلال بالنص، وذلك بإثبات النص كما ورد دون أى تغيير أو تبديل مهما كان الخطأ، على أن يشار فى الحواشى إلى النص الصحيح ,غير أن النص القرآنى يكتب صحيحًا بعد تحقيقه كما ورد فى القرآن .

6- المقابلة بين النسخ، وإعطاء كل نسخة رقمًا أو رمزًا ؛ للوقوف على الفروقات الموجودة بينها، وإثبات الصحيح، وإكمال النقص .

7- ترتيب النسخ على حسب أهميتها من حيث القِدم، والكمال، والخلو من العيوب والأخطاء، ووضوح الخط، وتصويبها من أحد أهل الفن، أو وجود إجازة عليها، أو معرفة ناسخها وشهرته .. .

* أهم المكتبات العالمية التى تعنى بالمخطوطات: 

على المحقق أن يبحث عن مخطوطته فى مظانها فى المراكز المشهورة فى العالم، فإن لم يستطع اقتناء فهارسها فعليه أن يعرف أسمائها ليتوجه إليها فى البحث ومن أهمها: 

* المكتبة السليمانية فى استانبول ومكتبة قونيا بتركيا .

* المكتبة الظاهرية بدمشق .

* دار الكتب المصرية بالقاهرة . 

* المكتبة الإسكندرية بمصر .

* المكتبة الأزهرية .

* مركز الملك فيصل بالرياض، وكذلك العديد من المكتبات بالجامعات .

أما المكتبات الأجنبية فمنها: 

* مكتبة برلين بألمانيا ومكتبة جوتا أيضًا . 

* مكتبة المتحف البريطانى .

* مكتبة تشستربيتى بأيرلندا . 

* المكتبة الفرنسية .

* مكتبة الجامعة الأمريكية .

 

هذا ما تيسَّر تقييده فى هذا الجانب المهم والمتشعب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .

 

معده: أ.د/ عبد العزيز بن محمد الفريح

رئيس قسم فقه السنة ومصادرها بكلية الحديث

الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية

27 - محرم - 1433 هـ

العودة لصفحة المؤتمر