أثر المصادر المساعدة فى تحقيق كتب السنة
نماذج تطبيقية من سنن الدارقطنى
د. كيلانى محمد خليفة
مقرر المؤتمر - ومدير مشروع السنة المشرفة بجمعية المكنز الإسلامى
العودة لصفحة المؤتمر
الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار مكور الليل على النهار تبصرةً لأولى النهى والأبصار، أحمده أبلغ الحمد على جميع نعمه، وأسأله المزيد من فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله البر الكريم الرءوف الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، سيد الخلق أجمعين، وأكرم السابقين واللاحقين، صلوات ربى وسلامه عليه وعلى سائر النبيين.
أما بعد:
فإن هذا البحث يعنى ببيان أثر المصادر المساعدة فى تحقيق كتب السنة، وبيان مدى أهميتها فى ضبط نصوصها، وقد أشار بعض المصنفين فى أصول التحقيق إشاراتٍ مختصرةً إلى أهمية المصادر المساعدة فى تحقيق النصوص على وجه العموم، ولم أجد من عرض لذلك فيما يتعلق بكتب السنة النبوية على وجه الخصوص، فأحببت أن أكتب فى هذا الموضوع لأسهم – ولو بقدرٍ ضئيلٍ – فى بيانه وتوضيحه، فجاء ذلك فى مبحثين:
المبحث الأول: التعريف بالمصادر المساعدة وبيان أقسامها
المصادر المساعدة هى الكتب التى يستعين بها الباحث لتحقيق النصوص، وإنما سميت بالمساعدة - وإن كانت عاملاً أساسيًا فى عمل التحقيق - نظرًا لأن مخطوطات الكتاب هى المصدر الأصلى لتحقيق نصوصه، وأما المصادر المساعدة فيبرز دورها فى تحقيق النص من جهة ترجيح لفظةٍ على أخرى، أو إثبات نصٍ وحذف غيره، ومن ثم يتضح لنا أن المصادر المساعدة لا تنفرد بإثبات شىءٍ فى النص أو حذفه منه إلا إذا كان له مؤيدٌ من النسخ الخطية، لكنها فى الوقت نفسه تعد من الأدوات الرئيسة فى إخراج النص إخراجًا علميًا دقيقًا، ولعل أهل عصرنا أسعد حظًا من جيل الرواد فى مجال التحقيق؛ وذلك لما يشهده هذا العصر من طفرةٍ هائلةٍ فى مجال النشر الطباعى والإلكترونى، ومن ثم فإنه لم يعد هناك عذرٌ للتقصير فى الاعتماد على تلك المصادر، خاصةً وقد أتيحت بين أيدينا موسوعاتٌ شاملةٌ تجمع مكتباتٍ متنوعةً تنوء بحملها الأرفف المتكاثرة إضافةً إلى تلك الانفراجة العظيمة فى الحصول على المخطوطات بعد تحويلها إلى صورةٍ رقميةٍ.
وإذا كنا لا نستطيع أن نُنْكرَ وجود آفاتٍ خطيرةٍ فى الاعتماد على الموسوعات وحدها – وليس هذا موضع الكلام عنها – إلا أنه يمكننا التغلب عليها بالرجوع إلى الكتب المطبوعة أو صورتها فى الملفات المعروفة بـ (PDF).
ويمكن أن تقسم المصادر المساعدة على قسمين رئيسين:
القسم الأول: مصادر عامةٌ لتحقيق كتب السنة:
وهى الكتب التى توضح ما استغلق فهمه أو خفى معناه أو أشكل ضبطه من الألفاظ والأسماء والكنى وغيرها، فلا بد للباحث من الرجوع إليها لتحقيق ما يشتبه عليه من ذلك.
وهذا القسم ينقسم على عدة أنواعٍ، وهى:
1- كتب متون السنة النبوية: فإن الاستعانة بكتب متون السنة النبوية يعد أمرًا ضروريًا لتحقيق النصوص الحديثية، فالنظر فى روايات الحديث المتعددة ولا سيما المتفقة فى الإسناد أو الطريق يساعد على الترجيح السديد بين فروق النسخ، ويلفت الانتباه إلى ما يقع فيها من تصحيفٍ أو تحريفٍ، ومن ثم فإنه يصدق فى باب التحقيق ما تم تأصيله وتقعيده فى معرفة العلل، وهو قول ابن المدينى: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه.
وكُتُب متون السنة النبوية منها الجوامع والصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم والأجزاء والمشيخات والأثبات والفوائد والمستدركات والمستخرجات... إلخ.
2- كُتُب الرجال عامةً: ولها أنواعٌ كثيرةٌ: فمنها ما يعتنى بعموم الرجال كالتاريخ الكبير للبخارى والجرح والتعديل لابن أبى حاتمٍ، ومنها ما يعتنى برجال كتبٍ بعينها كرجال الصحيحين لابن منجويه والكلاباذى، وتهذيب الكمال وفروعه ومنها ما يعتنى بالثقات كثقات ابن حبان، ومنها ما يعتنى بالضعفاء كالضعفاء للعقيلى، والكامل فى ضعفاء الرجال لابن عدىٍ، ومنها ما يعتنى برجال بلدٍ معينٍ؛ كتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادى، والتدوين فى أخبار قزوين للرافعى، ومنها ما يعتنى برجال طبقةٍ معينةٍ كطبقة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؛ كمعرفة الصحابة لأبى نعيمٍ، والاستيعاب فى معرفة الأصحاب لابن عبد البر، وأسد الغابة لابن الأثير، والإصابة فى تمييز الصحابة لابن حجرٍ، ومنها ما يعتنى بتراجم رجال مذهبٍ معينٍ؛ كطبقات الشافعية، وطبقات الحنابلة... إلخ، ومنها ما يعتنى بتراجم طائفةٍ معينةٍ؛ كطبقات الصوفية، وطبقات القراء، وطبقات المفسرين، وطبقات النحاة واللغويين، وطبقات الحفاظ، وطبقات الأطباء، وغير ذلك.
3- كتب التواريخ والسير: كسير أعلام النبلاء وتاريخ الإسلام كلاهما للذهبى، والبداية والنهاية لابن كثيرٍ، والوافى بالوفيات للصفدى، ووفيات الأعيان لابن خلكان، والدرر الكامنة لابن حجرٍ، والضوء اللامع للسخاوى، والبدر الطالع للشوكانى، وشذرات الذهب لابن العماد، وغير ذلك.
4- كتب الأنساب: ككتاب الأنساب للسمعانى، واللباب لابن الأثير، وغيرهما.
5- كتب الكنى والألقاب: ككتابى الكنى لمسلمٍ والدولابى، والألقاب لابن الجوزى وابن حجرٍ.
6- كتب المشتبه: وهى الكتب التى تعتنى بضبط ما أشكل من الأسماء والألقاب والأنساب وما اتفق فى الخط دون اللفظ؛ مثل مشتبه النسبة للأزدى، والإكمال لابن ماكولا، والمشتبه للذهبى، وتوضيح المشتبه لابن ناصر الدين، وتبصير المنتبه لابن حجرٍ، وكتب المؤتلف والمختلف للأزدى والدارقطنى والخطيب البغدادى، وغير ذلك.
7- كتب الأماكن والبلدان: كمعجم البلدان لياقوتٍ الحموى، ومعجم ما استعجم للبكرى.
8- كتب الشروح الحديثية: وهى تعين على ضبط الألفاظ، وبيان المعانى، وذكر الاختلاف بين الروايات، وبيان الخطإ عند بعض الرواة، وغير ذلك؛ كشروح البخارى ومسلمٍ والموطإ، وغيرها.
9- كتب مصطلح الحديث: فلا بد للمشتغل بتحقيق كتب السنة من استدامة النظر فى اصطلاحات المحدثين؛ وخاصةً ما يتعلق منها بكتابة المخطوطات، فهناك العديد من العلامات والرموز الموجودة فى كثيرٍ من النسخ الخطية التى لا بد أن يفطن لها الباحثون؛ كعلامة الإهمال، وحاء التحويل، والدارة المنقوطة، وعلامة التقديم والتأخير، وعلامة التصحيح، وعلامة التضبيب، وعلامة اللحق، وعلامة التحشية، وعلامات المقابلة بنسخٍ أخرى، وغير ذلك.
10- كتب الغريب والمعاجم اللغوية: فهى تساعد على فهم وضبط ما أشكل من النصوص؛ كالنهاية فى غريب الحديث والأثر، والصحاح ولسان العرب وتاج العروس، وغيرها، وأيضًا الكتب التى اعتنت بغريب كتابٍ بعينه كغريب الموطإ للوقشى والتلمسانى، وغريب الصحيحين للحميدى صاحب الجمع، وغير ذلك.
القسم الثانى: مصادر خاصة لتحقيق كتاب بعينه
وهى الكتب التى تتضمن نصوصًا من الكتاب سواءً كانت للمصنف نفسه، أو لغيره.
ويمكن تفصيل ذلك على النحو الآتى:
أولاً: كتب المؤلف نفسه سواءً كانت مخطوطةً أو مطبوعةً:
فإن المحدثين غالبًا ما يروون فى كتبهم قدرًا مشتركًا من الأحاديث بالأسانيد نفسها، فالناظر فى كتب الإمام البيهقى مثلاً يظهر له ذلك بوضوحٍ شديدٍ، وكذلك الخطيب البغدادى فى كتبه، والطبرانى فى معاجمه، وغيرهم من الأئمة، ومن ثم كان لزامًا على الباحث إذا شرع فى تحقيق كتابٍ لأحد العلماء أن يرجع إلى بقية كتبه باذلاً وسعه فى الاستفادة منها قدر الإمكان.
وهذا ما فعلناه فى تحقيقنا لسنن الدارقطنى، فقد رجعنا إلى كل كتب الإمام الدارقطنى المطبوعة وجمعنا الأحاديث التى وافقت ما رواه فى السنن سندًا ومتنًا؛ وهى: الأحاديث التى خولف فيها مالكٌ، وأربعون حديثًا من مسند بريد بن عبد الله بن أبى بردة، والأسخياء والأجواد، والإلزامات والتتبع، وحديث أبى طاهرٍ، والرؤية، والصفات، والنزول، والعلل، والغرائب والأفراد، وفوائد أبى علىٍ الصواف، والمزكيات وهى فوائد من حديث أبى إسحاق إبراهيم بن محمدٍ المزكى، والمؤتلف والمختلف.
ثانيًا: موارد الكتاب:
وهى الكتب التى اعتمد عليها المؤلف فى جمع مادة كتابه، وتعرف من خلال التتبع الدقيق لأسانيده ونقولاته، ومن ثم يمكن الاعتماد عليها فى تحقيق النصوص المروية عن طريقها أو المقتبسة منها.
وبالنظر فى أسانيد الإمام الدارقطنى علم أنه يروى بإسناده من طريق هذه الكتب: الأشربة لأحمد بن حنبلٍ، والأم للشافعى، والتاريخ الكبير لابن أبى خيثمة، وسنن أبى داود، وسنن النسائى الكبرى والصغرى، وصحيح ابن خزيمة، والغيلانيات لأبى بكرٍ الشافعى، ومسند أحمد بن حنبلٍ، ومسند الحميدى، ومسند الشافعى، ومسند عبد الله بن وهبٍ، ومسند على بن الجعد، ومصنف ابن أبى شيبة، ومصنف عبد الرزاق، والموطإ.
ثالثًا: الكتب التى تروى من طريق مصنف الكتاب:
فقد تميزت أمة الإسلام عن الأمم السابقة بمزية الإسناد؛ ولهذا فقد حرص علماء الإسلام عبر العصور المختلفة على الرواية بالإسناد، فحفظوا لنا بذلك نصوص كتبٍ كثيرةٍ سندًا ومتنًا، ومن أوضح الأمثلة على ذلك كتابا تاريخ بغداد للخطيب البغدادى وتاريخ دمشق لابن عساكر.
فينبغى عدم إهمال مثل هذه الكتب، بل لا بد من الاعتماد عليها والاستفادة منها فى مجال التحقيق.
وفى هذا الصدد نجد أن سنن الدارقطنى قد اشتملت كتبٌ كثيرةٌ على نصوصها، فروى مصنفوها من طريق الإمام الدارقطنى، ومن هذه الكتب: السنن الكبرى للبيهقى، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادى، والأحاديث المختارة للضياء، والأباطيل والمناكير للجوزقانى، والعلل المتناهية والموضوعات لابن الجوزى، وتغليق التعليق لابن حجرٍ العسقلانى، واللآلئ المصنوعة للسيوطى.
رابعًا: المصنفات حول الكتاب سندًا ومتنًا:
وهى المصنفات التى لها علاقةٌ مباشرةٌ بالكتاب سواءٌ عن طريق شرحه وبيان غريبه، أو اختصاره، أو جمع أطرافه، أو إفراد زوائده، وغير ذلك، وهى من أهم المصادر المساعدة؛ لأنها تحتفظ بغالب نصوص الكتاب أو بعضها؛ لذلك فهى تعد نسخةً أخرى لهذه النصوص، ومن ثم يجب الاعتماد عليها والاستفادة منها.
فإذا نظرنا فى كتب الأطراف مثلاً نجدها تفيد فى تحقيق الأسانيد؛ ولهذا ربطنا الكتب الستة بتحفة الأشراف، وربطنا مسند الإمام أحمد بإطراف المسند المعتلى بأطراف المسند الحنبلى، وإتحاف المهرة، وغاية المقصد، ومجمع الزوائد، وجامع المسانيد لكلٍ من ابن الجوزى وابن كثيرٍ، وغير ذلك مما كان له أثرٌ بالغٌ فى تحقيق نصوصه وتحرير أسانيده.
ومن الجدير بالذكر أن بعض محققى كتب الأطراف قد سلكوا طريقةً عكسيةً لما يجب أن يتبع فى تحقيق هذه الكتب، فوقعوا فى الخطإ والزلل؛ فقد وجدناهم يهملون النسخ الخطية لهذه الكتب فى بعض الأحيان معتمدين فى ضبط نصوصها على ما جاء فى مطبوع كتب السنة.
وقد سلك هذا المسلك محققو كتاب إتحاف المهرة، حيث كانوا يصححون أسانيده تبعًا لأسانيد كتب السنة المطبوعة، وقد تتبعنا هذه الأخطاء التى وقعوا فيها فى الأجزاء العشرة الأولى من الكتاب فبلغت ألف خطإٍ، ومن باب التعاون على البر والتقوى وخدمة السنة النبوية المشرفة حرصت على تسليم هذه الأخطاء للقائمين على مركز خدمة السنة والسيرة النبوية بالمدينة المنورة، وقد أرسلوا إلينا خطاب شكرٍ، وذلك منذ أكثر من عشر سنين.
وإذا كانت كتب الأطراف لها أثرٌ بالغٌ فى تحقيق الأسانيد كما ذكرنا، فإن كتب الشروح والغريب ذات أهميةٍ كبرى فى تحقيق المتون أيضًا؛ وذلك لما تتميز به من اعتنائها الشديد بضبط النص وكشف غوامضه وبيان الأخطاء القديمة والأوهام التى وقعت فى الرواية سواءً كانت من المصنف أو ممن فوقه، كما أنها توضح أحيانًا الاختلافات بين النسخ الخطية التى وقف عليها مصنفو هذه الكتب، فكثيرًا ما نجد فى كتب الشروح وغيرها هذه العبارات: "كذا فى جميع النسخ" أو "كذا فى النسخ المعتمدة" أو "كذا فى النسخ التى وقفت عليها" وغير ذلك.
ومن تلك المصنفات التى وقفنا عليها فيما يخص سنن الدارقطنى:
- إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة للحافظ ابن حجرٍ العسقلانى، فقد جمع فيه أطراف الدارقطنى مع كتبٍ أخرى.
- تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطنى لأبى محمدٍ عبد الله بن يحيى الغسانى.
- من تكلم فيه الدارقطنى فى كتاب السنن من الضعفاء والمتروكين والمجهولين لابن زريقٍ ناصر الدين محمد بن عبد الرحمن بن محمدٍ المقدسى.
خامسًا: المصنفات التى تضمنت بعض نصوص الكتاب:
وهى المصنفات التى تضمنت نصوصًا من هذا الكتاب، ونظرًا لأن موضوع سنن الدارقطنى هو أحاديث الأحكام تصحيحًا وإعلالاً، فقد أكثرت الكتب الجامعة لأحاديث الأحكام النقل عنها، ومن هذه الكتب: الإمام لابن دقيق العيد، والأحكام الكبرى لعبد الحق الإشبيلى، وبيان الوهم والإيهام لابن القطان، ونصب الراية للزيلعى، وتنقيح التحقيق لابن عبد الهادى، والبدر المنير لابن الملقن.
المبحث الثانى: نماذج تطبيقيةٌ لبيان أثر المصادر المساعدة فى تحقيق سنن الدارقطنى
لقد لفت نظرى فى أثناء دراستى لسنن الدارقطنى ثبوت تعليقاتٍ على حاشية إحدى نسخها الخطية متعلقةٍ بالكلام على الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا وعلى الرجال تعديلاً وتجريحًا، وهى نسخةٌ غايةٌ فى النفاسة، بل تعد أفضل النسخ الخطية التى وقفت عليها لسنن الدارقطنى، وقد ذكر ناسخها أنها معارضةٌ على أصل أبى عبد الله محمد بن محمد بن سماعة المنقول من أصل أبى عمرٍو عثمان بن سعيدٍ الدانى بخطه. كما أنها مقابلةٌ أيضًا على عدة أصولٍ أخرى مثل أصل العتيقى أحمد بن محمد بن أحمد بن منصورٍ البغدادى (ت 441)، وأصل الحافظ ابن الأنماطى المصرى الشافعى (ت 619)، وأصل زين الأمناء أبى البركات الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن عساكر (ت 627)، وأصل أبى الحجاج شمس الدين بن خليلٍ الدمشقى الحلبى (ت 648)، وأصل الحافظ رشيد الدين أبى الحسين يحيى بن علىٍ العطار القرشى المصرى المالكى (ت 662)، وأصل الحافظ الدمياطى عبد المؤمن بن خلفٍ (ت 705). كما أن عليها سماعاتٍ للحافظ ابن حجرٍ العسقلانى (ت 852) على زين الدين العراقى (ت806) ونور الدين الهيثمى (ت 807).
وقد ذكرت فى كتابى "منهج الدارقطنى فى كتاب السنن" عند الكلام على هذه النسخة أنها مصورةٌ من مركز الملك فيصلٍ، وغالب ظنى أن أصلها بتركيا (1)، ثم وفقنى الله بعد ذلك خلال رحلتى إلى تركيا للوقوف عليها بالمكتبة السليمانية ضمن مجموعة "يازما باجشيلار" ومعناها "المجموعة المهداة"، فصورتها مرةً ثانيةً، وقد استفدنا منها كثيرًا فيما أشكل علينا من المصورة التى حصلنا عليها من مركز الملك فيصلٍ.
وقد اشتملت الطبعة الهندية أيضًا على بعض هذه التعليقات، وكذا طبعة السيد عبد الله هاشم يمانى المأخوذة عنها، لكن الغريب فى الأمر أن محققى طبعة مؤسسة الرسالة من سنن الدارقطنى لم يعبئوا بهذه التعليقات، فحذفوا أغلبها ولم يلتفتوا إلى ثبوتها على حاشية النسخة التركية على الرغم من أنها من النسخ التى اعتمدوا عليها، بل إنهم حذفوا بعض الأقوال الثابتة فى أصل النسخ الخطية، ومن ذلك على سبيل المثال حديثٌ رواه الدارقطنى من طريق مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيبٍ عن ابن الزبير عن عائشة مرفوعًا، ثم قال: تفرد به مصعب بن شيبة، وخالفه أبو بشرٍ وسليمان التيمى فروياه عن طلق بن حبيبٍ قوله غير مرفوعٍ. فهذا القول للدارقطنى ليس فى طبعة مؤسسة الرسالة مع ثبوته فى نسختين خطيتين من النسخ الثلاث التى اعتمدوا عليها، وهما نسخة مركز الملك فيصلٍ ونسخة دار الكتب المصرية.
وقد اختلفت الأنظار حول هذه التعليقات: هل هى من كلام الدارقطنى أم من كلام غيره من الحفاظ الذين جاءوا بعده ؟
والذى ترجح عندى - والله تعالى أعلم - صحة نسبة هذه التعليقات للإمام الدارقطنى، فقد احتف بها عدة قرائن تدل دلالةً واضحةً على صحة نسبتها إليه، منها ما يتعلق بالنسخ الخطية، ومنها ما يتعلق بالمصادر المساعدة.
فأما القرائن المتعلقة بالنسخ الخطية لسنن الدارقطنى فهى:
الأولى: أن بعض هذه التعليقات ذكرت فى حاشية النسخة الظاهرية باللون الأحمر، وهى قطعةٌ صغيرةٌ، ثم كتب فى آخر النسخة ما نصه: المكتوب على الحواشى بالحمرة منقولٌ من خط أبى الحسن الدارقطنى.
الثانية: ورود بعض هذه التعليقات أيضًا بين السطور فى النسخة الخطية الهندية بخطٍ دقيقٍ أحمر، وهى نسخةٌ كاملةٌ مصورةٌ عن نسخة مكتبة دار العلوم لندوة العلماء بالهند، وقد كان الفراغ من نسخها كاملةً سنة 729 هـ.
الثالثة: أننا وجدنا فى حاشية النسخة (ح) تعليقاتٍ تصرح بذلك أو تتضمنه. ومن هذه التعليقات:
* بعد الحديث رقم 744، نقل الدارقطنى قول ابن أبى حاتمٍ: سألت أبى وأبا زرعة عنه فقالا: رواه ابن أبى العشرين عن الأوزاعى عن إسماعيل بن مسلمٍ عن عطاءٍ عن ابن عباسٍ، وأسند الحديث [وفى أكثر النسخ الخطية التى وقفنا عليها: وأفسد الحديث].
فقد كتب قبالته فى حاشية النسخة (ح): "لأن إسماعيل ضعيفٌ" وكتب فوقه: بخط الدارقطنى.
* وجدنا أيضًا فى حاشية النسخة (ح) قبالة الحديث رقم 1233: كتب فى نسخةٍ بخط الدارقطنى عن صدقة عن زيدٍ عن عثمان بن أبى سودة.
* وجدنا أيضًا فى حاشية النسخة (ح) قبالة الحديث رقم 858 والذى رواه الدارقطنى عن أبى حامدٍ محمد بن هارون حدثنا محمد بن أحمد بن أنسٍ الشامى حدثنا حماد بن المنهال البصرى عن محمد بن راشدٍ عن مكحولٍ عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أقل الحيض ثلاثة أيامٍ ».
كتب فى حاشية تلك النسخة: من بين شيخنا وبين مكحولٍ ضعفاء.
قلت: وهذا الكلام لا يصح أن يكون لغير الدارقطنى؛ فشيخ الدارقطنى ثقةٌ، ومن بينه إلى مكحولٍ ضعفاء، ولو كان هذا التعليق لغير الدارقطنى لاختار عبارةً أخرى مناسبةً غير هذه. أضف إلى ذلك أن مثل هذا التعليق قد ورد فى موضعٍ آخر من السنن، وذلك عند الحديث رقم 2956، وقد اتفقت النسخ الخطية على إثباته.
* وجدنا أيضًا فى حاشية النسخة (ح) قبالة الحديثين (1640، 1641): قال الشيخ: هذه مراسيل لا تقوم بها حجةٌ.
وهذه العبارة ورد مثلها فى مواضع أخرى من السنن منسوبةً للدارقطنى، والله أعلم.
وجميع هذه التعليقات تؤكد نسبة هذه الأقوال للإمام الدارقطنى.
وأما القرائن المتعلقة بالمصادر المساعدة فكثيرةٌ؛ منها:
الأولى: ما ذكره الخطيب البغدادى رحمه الله فى تاريخه فى ترجمة أحمد بن الحسن المقرئ، فقال: قرأت بخط أبى الحسن الدارقطنى: أحمد بن الحسن يعرف بدبيسٍ ليس بثقةٍ (2).
قلنا: وهذا الكلام الذى ذكره الخطيب عن الدارقطنى لم نجده إلا فى حاشية النسخة (ح) بتمامه عند الحديث رقم 1169.
* وأيضًا ذكر الخطيب فى ترجمة يحيى بن عبادٍ السعدى قال: قرأت بخط الدارقطنى: يحيى بن عبادٍ السعدى ضعيفٌ (3).
وهو فى حاشية النسخة (ح) عند الحديث رقم 2107.
* وأيضًا ذكر الخطيب أقوالاً أخرى مثل ذلك إلا أننا لم نجدها فى السنن ولا فى حاشيتها، ولعله كتبها فى كتابٍ آخر.
الثانية: نص الإمام الذهبى على ثبوت تعليقاتٍ للدارقطنى على حاشية السنن فى كتابه ميزان الاعتدال فى ترجمة يوسف بن بحرٍ فقال: قال الدارقطنى: ضعيفٌ. ذكره على هامش السنن. اهـ (4).
قلنا: وهو فى حاشية النسخة (ح) عند الحديث رقم 1566.
الثالثة: نص الحافظ ابن حجرٍ أيضًا على ذلك فى أكثر من تأليفٍ له:
* ففى ترجمة إبراهيم بن سلمان مدنى، قال الحافظ: قال الدارقطنى فى حواشى السنن: ليس بالمشهور (5).
وهذا الكلام فى حاشية النسخة (ح) عند الحديث رقم 1313.
* وفى ترجمة عبد الله بن الحكم البلوى قال الحافظ: قال الدارقطنى فى حاشية السنن: ليس بمشهورٍ. وقال فى موضعٍ آخر: ليس بالقوى (6).
أما قوله: "ليس بمشهورٍ" فهو فى حاشية النسخة (ح) عند الحديث رقم 771.
وأما قوله: وقال فى موضعٍ آخر: "ليس بالقوى" فهو فى حاشية النسخة (ح) أيضًا عند الحديث رقم 780.
* وفى ترجمة عبيد بن محمدٍ العبدى قال الحافظ: قال الدارقطنى فى حاشية السنن: عبيد بن محمدٍ هذا ضعيفٌ (7).
وهذا الكلام فى حاشية النسخة (ح) عند الحديث رقم 1637.
* وفى ترجمة عثمان بن محمدٍ الأنماطى فى الكلام على حديث جابرٍ فى التيمم قال الحافظ فى اللسان: قال الدارقطنى فى حاشية السنن: كلهم ثقاتٌ ولكن الصواب موقوفٌ (8).
وقاله أيضًا فى التلخيص الحبير (9). وذكر تعليقه هذا فى الإتحاف أيضًا، ولكن بدون ذكر عبارة "فى حاشية السنن" (10).
وهذا الكلام فى حاشية النسخة (ح) عند الحديث رقم 704.
إلا أنه قال فى تهذيب التهذيب: ورأيت فى حاشية سنن الدارقطنى عقب حديثٍ أخرجه من طريق إبراهيم الحربى عن عثمان بن محمدٍ الأنماطى... عن جابرٍ فى التيمم: كلهم ثقاتٌ والصحيح موقوفٌ (11).
* وفى ترجمة محبوب بن الجهم قال الحافظ: قال الدارقطنى فى حاشية السنن: ليس بالقوى (12).
وهذا الكلام فى حاشية النسخة (ح) عند الحديث رقم 1028.
* وفى نتائج الأفكار علق على حديث ابن عمر فى التشهد فقال: أخرجه الدارقطنى وقال: رجاله ثقاتٌ. وقال فى حاشية السنن: إسناده صحيحٌ.
قلنا: وهو فى الصلب وحاشية النسخة (ح) عند الحديث رقم 1345 إلا أنه فى الصلب كتب: إسناده صحيحٌ. وفى الحاشية: كلهم ثقاتٌ.
الرابعة: نقل جماعةٌ من العلماء فى كتبهم بعض هذه الأحكام والتعليقات منسوبةً للدارقطنى، ولا توجد إلا فى حاشية النسخة (ح) والله أعلم، وهؤلاء العلماء هم شهاب الدين أبو محمدٍ المقدسى 655 هـ فى كتابه البسملة، والنووى 676 هـ فى كتابه المجموع فى الكلام فى مسألة البسملة، والغسانى 682 هـ فى كتابه تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطنى، وابن عبد الهادى المقدسى 744 هـ فى كتابه تنقيح التحقيق، والذهبى 748 هـ فى كتابه ميزان الاعتدال (13)، والزيلعى 762 هـ فى كتابه نصب الراية، وناصر الدين بن زريقٍ الحنبلى 803 هـ فى كتابه من تكلم فيه الدارقطنى فى كتاب السنن من الضعفاء والمتروكين والمجهولين، وابن حجرٍ العسقلانى 852 هـ فى كتابه الإتحاف وغيره من مصنفاته.
* ففى الحديث رقم 1167 الذى رواه الدارقطنى من طريق سليمان بن عبد العزيز بن أبى ثابتٍ بسنده عن على بن أبى طالبٍ قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) فى صلاته.
وجدنا فى حاشية النسخة (ح): هذا إسنادٌ علوىٌ لا بأس به.
وكذا جاء فى الضعاف للغسانى, وكذا ذكره منسوبًا للدارقطنى الزيلعى فى نصب الراية، وابن عبد الهادى المقدسى فى التنقيح.
* وفى الحديث رقم 704 الذى رواه الدارقطنى من طريق عثمان بن محمدٍ الأنماطى بسنده عن جابرٍ مرفوعًا: التيمم ضربةٌ للوجه.
وجدنا فى حاشية النسخة (ح): كلهم ثقاتٌ والصواب موقوفٌ.
وكذا جاء فى لسان الميزان والإتحاف والتلخيص الحبير والتنقيح منسوبًا للدارقطنى.
وجميع هذه القرائن تـثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - أن للدارقطنى تعليقاتٍ على سننه كتبها بخطه فى الحاشية، ولعل السبب فى مجيئها بالحاشية وثبوتها فى نسخٍ دون أخرى: أن الدارقطنى بعد فراغه من تصنيف السنن، وبعد أن تداولها أهل العلم، وانتشرت نسخ الكتاب وتفرقت فى الآفاق، زاد هذه التعليقات على حاشية نسخته، فاستدرك ذلك فى بعض النسخ بينما بقيت أغلب النسخ بدونها.
وقد يرد على ما ذهبنا إليه من تصحيح نسبة هذه التعليقات للإمام الدارقطنى ما قاله ابن رجبٍ رحمه الله فى أثناء الكلام على حديث البسملة، حيث قال: وقد قال العقيلى فى كتابه: لا يصح فى الجهر بالبسملة حديثٌ مسندٌ، يعنى: مرفوعًا إلى النبى صلى الله عليه وسلم. وحكى مثله عن الدارقطنى، وما ينقل عنه فى سننه من تصحيح أحاديث فى هذا الباب، فلا توجد فى جميع النسخ، بل فى بعضها، ولعله من زيادة بعض الرواة (14).
قلت: ما قاله ابن رجبٍ لا يرقى إلى معارضة الأدلة المتكاثرة السابقة، حيث يعارض قوله بقول الأئمة أمثال الخطيب البغدادى والذهبى وابن حجرٍ العسقلانى وغيرهم.
هذا وقد وجدنا فى حاشية النسخة (ح) أقوالاً لم نجد لها داعمًا من المصادر المساعدة، ومن ثم لم نثبت شيئًا منها إلا إذا وافق المصادر المساعدة، وما انفردت به تم إثباته فى الهوامش مع التعليق.
وخلاصة ما سبق: أن القرائن المحتفة بهذه التعليقات تؤكد صحة نسبتها للدارقطنى، وقد خلت جميع طبعات سنن الدارقطنى من غالب هذه التعليقات، وهو ما يبرر الحاجة إلى تحقيق الكتاب تحقيقًا علميًا متميزًا، وهو ما تقوم به جمعية المكنز الآن. وأبشركم جميعًا بقرب صدور طبعتها المحققة هذه إن شاء الله تعالى.
وتستمد أهمية هذا البحث من كون هذه التعليقات لإمامٍ حافظٍ مثل الدارقطنى، حيث سمع الكثير، وجمع وصنف وألف وأجاد وأحسن النظر والتعليل والانتقاد والاعتقاد، فكان فريد عصره، ونسيج وحده، وإمام دهره فى أسماء الرجال، وصناعة التعليل، والجرح والتعديل، وحسن التصنيف والتأليف، واتساع الرواية والاطلاع التام فى الدراية.
هذا وأرجو أن أكون بهذا البحث المتواضع قد لفت أنظار العلماء والباحثين إلى أهمية المصادر المساعدة فى تحقيق كتب السنة النبوية، والله أسأل أن ينفع به كاتبه وقارئه وسامعه، إنه ولى ذلك والقادر عليه، والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
العودة لصفحة المؤتمر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- منهج الدارقطنى ص 94.
2- تاريخ بغداد 5/141.
3- تاريخ بغداد 16/217.
4 - ميزان الاعتدال 4/463.
5 - لسان الميزان 1/27.
6 - لسان الميزان 4/463.
7 - لسان الميزان 5/360.
8 - لسان الميزان 5/408.
9 - التلخيص الحبير 1/413.
10 - الإتحاف 3535.
11 - تهذيب التهذيب 7/152.
12 - لسان الميزان 5/466.
13 - انظر مثلاً 1/91، 94، 205، 286 ترجمة أحمد بن الحسن المقرئ، وترجمة أحمد بن حماد، وترجمة إسحاق بن أبى يحيى الكعبى، وترجمة أيوب بن حصين.
14 - فتح البارى لابن رجب 5/198.