أهمية جمع المخطوطات فى تحقيق كتب السنة وضوابط اختيارها 

 نص كلمة أ.د. قاسم على سعد

 أستاذ الحديث المشارك بجامعة الشارقة - بالإمارات العربية المتحدة

العودة لصفحة المؤتمر 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فبادئ ذى بدء أتقدم بجزيل الشكر إلى إدارة الأزهر الشريف، وإلى إدارة المكنز الإسلامى، وأخص بالشكر من هاتين المؤسستين الشريفتين أستاذنا الدكتور أحمد معبد عبد الكريم والدكتور كيلانى خليفة، كما أخص بالشكر أيضًا رئيس هذه الجلسة الأستاذ الدكتور أحمد عمر هاشم، وأتقدم بالشكر أيضًا إلى أساتذتنا الأجلاء وإخواننا الأعزاء، ثم أقول:

المخطوط كَنز ثمين من تراث هذه الأمة، وعلق نفيس من أعلاقها، ساهم هذا المخطوط فى إبقاء هذا الدين غضاً طريًا، وسلم هذا المخطوط أو كان عاملاً فى أن تكون هذه الأمة سالمة من الذوبان فى غيرها - كما حدث الأمر فى غيرها من الأمم. وأمتنا اجتهدت الاجتهاد الكبير منذ بداية أمرها فى حفظ وثائقها بمنهجية عالية متميزة، صار يضرب بهذا المثل.

وأود بداية أن أشير إلى أمر ربما لم أسمعه من قبل وهو أن النبى صلى الله عليه وسلم، وأن أبا بكر الصديق رضى الله تعالى عنه، وأن عثمان بن عفان رضى الله عنه كان عملهم فى جمع القرآن الكريم هو أول تحقيق علمى دقيق جدًا جدًا، النبى صلى الله عليه وسلم كان يُعارض جبريل كل سنة عندما يأتيه فى رمضان، فيعارضه القرآن. وفى آخر سنة من حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم عارضه مرتين. 

النبى صلى الله عليه وسلم عندما ينزل عليه شىء من الوحى كان يقرأ ذلك على أصحابه ثم يأمر مَن كتب فى مجلسه أن يعيد ما كتبه قراءةً عليه صلى الله عليه وسلم، والنبى صلى الله عليه وسلم نهى أن يُكتب فى الصحيفة التى يُكتب فيها القرآن شىءٌ من السنة، كل هذه الأمور تهيئة للتحقيق.

وأبو بكر الصديق رضى الله عنه عندما أمر اللجنة التى شكلها وعلى رأسها زيد بن ثابت، والمشهور أنه هو الذى كتب ولكن فى الحقيقة كانت هناك لجنة معه فيها عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، أمرهم أن يستدعوا كل من كتب شيئًا أمام النبى صلى الله عليه وسلم أن يأتى بالوسيلة التى كتب شيئًا من القرآن عليها وأن يأتى بشاهدين على كل وثيقة.

وفى عهد عثمان رضى الله تعالى عنه عندما أمر اللجنة أيضًا بالجمع الثانى للقرآن الكريم، وأمرهم إذا اختلفوا فى شىء أن يكتبوه بلسان قريش، وهكذا. ولذلك فبداية التحقيق كان فى هذا الأمر، ويعد القرآن الكريم الكتاب الأعلى فى التحقيق، الذى كتب كما أراده الله سبحانه وتعالى، وأظن أنه لم يحدث أن هناك كتابًا آخر كتب بهذه الصورة، حتى لو كانت بخطوط مؤلفيها أو غير ذلك. فالقرآن الكريم - حقيقة - ينبغى أن يذكر هنا وتذكر اللجنة التى كلفت بجمع القرآن الكريم قبل أن يذكر أهل الحديث.

ذكر الأستاذ الكبير والمفكر الإسلامى الشهير محمد المبارك عن أستاذه ماسنيون المستشرق المشهور أنه عندما درَّس لهم فى جامعة السوربون قال له ولمن معه من التلامذة " إنا نحن المستشرقين بقينا ثلاثة أجيال ونحن نتتبع نسخ القرآن الكريم من المكتبات العالمية، فلم نترك مكتبة إلا وجمعنا ما فيها من نسخ القرآن الكريم، حتى الأوراق المتناثرة والمتفرقة والمقطوعة من المصاحف التى ضاع أصلها جمعناها وقارناها فيما بينها بالمصاحف المشهورة، فلم نجد اختلافًا فى كلمة ولا فى جملة ولا فى آية واحدة فى القرآن كله، لذلك صرنا نستيقن بأن القرآن الذى نطق به محمد هو باق إلى يومنا هذا كما نطق به محمد".

ثم بعد ذلك حقيقة نذكر أهل الحديث، فهم الذين قعَّدوا لهذا العلم، وهم الذين أرسوا هذه القواعد، وهم الذين وضعوا المناهج لهذا العلم، كان لهم دور كبير جدًّا فى هذا الشأن أو هذا الأمر. وسأذكر شهادات العلماء غير المسلمين لهذا الشأن، والفضل ما شهدت به الأعداء:

هناك رجل نصرانى من لبنان كان له شأن كبير وقدر عال، اسمه أسد رستم، هذا الرجل درس فى أمريكا علم التوثيق حتى صار فى يوم من الأيام من رواد علم التوثيق على المستوى العالمى، وكان هناك مؤتمر فى الشام أظنه كان عن المتنبى أو ما شابه، فدعى إليه فحضره، وزار مكتبة الظاهرية، وسأل الحاضرين عما يوجد عندهم فى المكتبة فى علم التوثيق، فقال له أحد المشايخ: لدينا كتاب الإلماع للقاضى عياض، فأخذه وقرأه، فأعجب به إعجابًا شديدًا جدًا، وعندما كتب كتابه الصغير "مصطلح التاريخ" بين فيه أن المسلمين - وخاصة علماء الحديث - هم الذين وضعوا قواعد هذا العلم (علم التحقيق)، وأشاد بالمسلمين وعلماء الحديث الإشادة الكاملة، حتى إنه كان يقول: إنه مما يثلج الصدر ويبهج النفس أن يكون علماء الحديث هم الذين قدموا للناس هذه القواعد وهذا المنهج، وربما قام من قرأ كتابه هذا ليقاوم ويعارض من قال إنه نصرانى. فكتابه قيم جدا فى هذا المجال.

فمن كلامه فى هذا الأمر يقول فى كتابه بعد أن اطلع على كتاب الإلماع " والواقع أنه ليس فى إمكان أكابر رجال التاريخ اليوم أن يكتبوها أحسن منها فى بعض نواحيها" وهو يقصد مخطوطة كتاب الإلماع.

والتحقيق كما هو معروف أمر جليل وخطير يتطلب معاناة عالية، ويتطلب كفاءة علمية، وفيه صعاب كثيرة جدًا، صعاب فى جمع النسخ الخطية، وكذلك فى فحص هذه النسخ بعد جمعها، صعاب فى معرفة الخط الذى كتبت به هذه المخطوطة، وأخيرًا فى عملية التحقيق نفسها.

والجاحظ فى الحقيقة له كلمة تدل على هذا الأمر دلالة واضحة جدًا يقول " وربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفًا أو كلمة ساقطة فيكون إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ وشريف المعانى أيسر عليه من إتمام ذلك النقص". فالمحقق يحتاج إلى كفاءة عالية، يحتاج إلى أناة وخبرة وذوق وصبر وأمانة، كل هذه الأمور يحتاجها المحقق.

عند أهل الحديث يعرف ضبط الراوى بمقارنة رواياته بروايات غيره من الثقات، كذلك الحال فى التحقيق، فالتحقيق لا بد فيه من جمع النسخ وأن نقارن بين هذه النسخ، حتى نستطيع أن نقدم نصًا قويمًا وسليمًا.

يقول الإمام الكبير على بن المدينى "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه". ونأخذ من هذا الكلام أن الكتاب المراد تحقيقه إذا لم تجمع نسخه لم نقدمه على الوجه الذى أراده مؤلفه. 

وهناك أيضًا إمام كبير قال نحو هذه الكلمة، وهو الإمام أبو حاتم الرازى قال " إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش". قمش أى اجمع كل شىء الغث والثمين. وكذلك الذى يريد التحقيق يجمع الغث والثمين من النسخ، ثم يتفحص هذه النسخ بدقة، ويستبعد ما يستحق الإبعاد حينئذ.

أقرأ مرة أخرى كلمة للدكتور أسد رستم، ذلك الرائد من رواد علم التوثيق قال " إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ". وبالطبع فإن الرجل مؤرخ وهو يتكلم بلسان المؤرخ. وعلى المؤرخ أن يبدأ عمله دائمًا بجمع الأصول، وكثير من المحققين الآن يتوقف فى مكتبة قريبة منه على نسخة جيدة لكتاب ما فيأخذها ويحققها وينتهى الأمر، ولم يجمع النسخ.

ثم بين هذا الرجل أن علماء الحديث كان لهم السبق فى كل هذه الأمور.

جمع النسخ الخطية هو أول أدوات التحقيق، وهناك كثير من كبار المحققين قد ندموا كثيرا بعدما وجدوا نسخًا أخرى لكتب قد حققوها من قبل، فاضطروا فيما بعد لإعادة التحقيق بعد إضافة هذه النسخ، ومنهم من لم ينشط لذلك. فهناك من المحققين من يكتفى بجمع عشر نسخ على سبيل المثال ويعتبرها عددًا كبيرًا، ثم يبدأ فيختار ويبدأ التحقيق، ومنهم من صرح بأنه يكتفى فى التحقيق إن وجد المحقق ست نسخ فقط من الكتاب.

ثم أذكر كلامًا آخر للدكتور أسد رستم، وأنا أعجبت بهذه الكلمة كثيرًا، يقول "إذا كانت غاية المؤلف الوصول إلى الحقيقة ؛ فالحقيقة هى كل الحقيقة، لا بعضها، وهى وحدة تامة لا تتجزأ".

وبالفعل فالمحقق الآن يريد أن يصل إلى الحقيقة الكاملة، فإذا جمع النسخ كلها إلا نسخة واحدة، وفيها قيمة علمية فإنه لم يعمل على الوصول إلى الحقيقة كاملة حينئذ.

وبالنسبة للبحث عن النسخ والتعرف على أماكن تواجدها فوسائلها كثيرة جدًا فى عصرنا الحالى، على عكس الماضى القريب الذى كان فيه هذا الأمر صعب جدًا.

كل هذا هو مقدمة لكيفية التعرف على النسخ، وبالمناسبة فأنا أذكر قصة طريفة لابن الأخشاد - ويقال ابن الإخشيد - وهو من العلماء السابقين، وكان قرأ مرة أن هناك كتابًا للجاحظ اسمه الفرق بين النبى والمتنبى، فأراد الحصول على هذا الكتاب، فبحث حتى أتعبه البحث بلا فائدة، فذهب مرة إلى الحج فبعث مناديًا ينادى يوم عرفة بين خيام الحجيج " رحم الله من دلنا على كتاب الجاحظ: الفرق بين النبى والمتنبى على أى وجه كان" يعنى أن يأخذ صاحبه ما يريد، فأخذ ينادى والناس يتعجبون منه لأنه يسأل عن كتاب للجاحظ بهذا الاسم يوم عرفة. فعاد إلى ابن الأخشاد ولم يجد شيئًا، فقال ابن الأخشاد: إنما أردت من وراء هذا أن أبلغ نفسى عذرها. فاستراح هكذا، فإن الحجيج قد أتوا من كل أقطار الأرض ولم يعرفوا هذا الكتاب، وأنا أتوقع أنه ربما كان بعض الناس يعرفون الكتاب ولكنهم لم يخبروه لعنوانه ولمؤلفه.

وسأذكر مثالاً قريبًا لأهمية جمع النسخ؛ وهو مسند الإمام أحمد، فقد طبعته مؤسسة الرسالة ببيروت طبعة ممتازة فى خمسين مجلدًا، أعجبت الكثيرين وهى بالفعل نسخة جيدة، ولكن جمعية المكنز الإسلامى جاءت بعده وحاولتْ جمع أكبر عدد من النسخ، وبالفعل جاءت طبعتهم وفيها زيادات كثيرة؛ حتى إنه فى موطن واحد أدركوا سقطًا موجودًا فى جميع طبعات المسند قدره مئة حديث، وطبعًا لم يكن هذا السقط من المحققين فى الرسالة، فقد كانت طبعتهم تحت إشراف العلامة شعيب الأرناؤوط، ولكنهم لم يقفوا على تلك النسخة التى فيها تلك الزيادة. ولذلك التقصير فى جمع النسخ سيوقع الإنسان فى الندم فيما بعد.

الإمام مسلم فى صحيحه أَكْثَرَ من جمع الروايات، وجمع الروايات مثل جمع النسخ، فقد حاول الإمام مسلم أن يجمع أكبر قدر ممكن من الروايات، وربما مر القارئ على صحيح مسلم ولم ينتبه لمجهوده الكبير فى الكتاب، فأدخل مرة بين الروايات رواية عن يحيى بن أبى كثير يقول فيها : لا يستطاع العلم براحة الجسم. فيسأل القارئ ما علاقة هذا الكلام بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فأراد الإمام مسلم أن ينبه القارئ إلى أهمية ما كتبه وإلى أهمية ما جمعه ونحو ذلك.

وهناك فى الحقيقة مخاطر كثيرة لعدم جمع النسخ، منها تقديم الكتاب مشوهًا عندما يقف المحقق على نسخة ليس جيدة أو لأسباب أخرى، أيضا تقديم الكتاب بصورة أنقص أو أوسع مما كتبه كاتبه. نجد الآن فى كثير من الأحيان بعض المحققين يدخلون الحواشى الموجودة على الكتاب فى النص، وهناك من يخرجون من النص جملا منه، منها ما جاء فى صورة لحق، وهو كلمة أو أكثر فاتت الناسخ ثم استدركها بعد ذلك فى المقابلة فألحقها بالحاشية، فيأتى المحقق ويترك كل ما كتب فى الحواشى، فيقدم الكتاب فى صورة أنقص أو أوسع مما كتبه مؤلفه.

وأيضا قد ينسب الكتاب إلى غير مؤلفه بسبب عدم جمع النسخ، وقد يثبت عنوان غير عنوان الكتاب الأصلى، إلى غير ذلك.

وأيضا قد يخلط بين النسخ القديمة والمتأخرة، وسبب هذا أن النساخ فى آخر المخطوط يكتبون : انتهى فلان من كتابة كذا. أو كتب فلان بتاريخ كذا. فيأتى الناسخ وينسخ المخطوط وينقله كله حتى ينقل ما كتبه ناسخ النسخة التى بين يديه ولا يذكر اسمه هو، فيظن المحقق أن هذه النسخة متقدمة، مع أنها متأخرة جدًّا.

لأجل ذلك يقول العلامة اليوسى، وهو أحد العلماء المغاربة الأجلاء، الذى قال فيه الشاعر:

من فاته الحسن البصرى يصحبه فليصحب الحسن اليوسى يكفيه

واسمه الحسن بن مسعود اليوسى، له كتاب اسمه القانون، طبع طبعة حجرية قديمة فى المغرب، وهو كتاب قيم، يقول فيه "وما أحوج الناس إلى إقامة الحسبة على الناسخ". وأقتبس منه فأقول: وما أحوج الناس إلى إقامة الحسبة على بعض المحققين. وهم الذين يُـحسبون على هذا العلم وليسوا من أهله.

بالنسبة لضوابط اختيار النُّسخ، فالنسخ لها منازل وهى أصناف متعددة، ويأتى على رأس النسخ فى المرتبة الأولى مبيضة المؤلف، وهى النسخة الأم، وكما أشير من قبل تكون آخر ما كتبه المؤلف، أو ما يسمى آخر إبرازة، فالمؤلف الواحد قد يجدد فى كتابه، كما يحدث الآن عندما يعيد بعض المؤلفين طبع كتاب ما مرة أخرى فيضيف فيه إضافات كثيرة، فعلى المراجع أن يراجع الطبعة الأخيرة، فربما أخطأ المؤلف أو المحقق فى الطبعة الأولى، ثم استدرك هذا الخطأ فى الطبعة الثانية فلا ينسب إليه الخطأ بعد الطبعة الثانية، وهكذا العلماء يجددون فى كتبهم، فهو أمر لا ينتهى.

روايات الكتب تتباين كما أشير من قبل إلى موطأ الإمام مالك برواياته المتعددة والمختلفة، وأيضًا السنن لأبى داود له روايات متعددة، ويذكر العلامة صلاح الدين المنجد فيقول " إن تاريخ دمشق لابن عساكر نسخته الأخيرة فى ثمانين مجلدًا، وله طبعة قبله فى سبع وخمسين مجلدًا، وذلك لأن ابن عساكر زاد فى إبرازته الثانية كثيرًا عن الأولى".

ولا يجب أن يغتر المحقق بمسودة المؤلف وهى بخطه، ويجب بداية أن نفرق بين مسودة المؤلف ومبيضة المؤلف، فقد يكون المؤلف قد كتب مسودة ثم بيضها فيما بعد، فعندما نقف على المسودة وهى بخط المؤلف لا ينبغى أن نغتر بهذا كثيرا، فهى ليست آخر إبرازاته. لذلك لا يصلح التلفيق بين الروايات، كما أشير من قبل بالنسبة لرواية اللؤلؤى ورواية ابن داسه لكتاب سنن أبى داود، فنجد فى بعض طبعات الكتاب جزءًا من هذه الرواية وجزءًا من هذه الرواية، أو يكمل مِن هذه ما نقص من تلك، وهذا أمر خطير جدًا ينبغى أن يُنْتبه إليه.

تأتى فى المرتبة الثانية بعد مبيضة المؤلف - النسخة التى قرأها المؤلف أو قُرئت عليه، وكذلك النسخة التى أملاها المؤلف، مثل كتاب (فتح المغيث فى شرح ألفية الحديث) هو كتاب مشهور فى علوم الحديث للإمام السخاوى، يوجد منه ثلاث نسخ قرئت على المؤلف، وبينها اختلاف، لأن النسخة الأولى قُرئت على المؤلف، ثم بعد مدة قُرئت عليه نسخة أخرى، وأخيرًا قُرئت عليه النسخة الأخيرة مثل نسخة الحرم المكى التى قرئت عليه قبل وفاته بأربع سنوات، ولذا يجب أن تعتمد هذه النسخة الأخيرة. وهذا أمر ينبغى مراعاته.

ثم تأتى فى المنزلة بعد ذلك النسخة التى نسخت من مبيضة المؤلف أو من التى قرأها أو من التى قرئت عليه، ثم تليها النسخة الموثقة بالأسانيد أو بالسماعات أو بالمقابلات أو بخطوط العلماء، ثم تليها النسخة غير الموثقة وكثيرًا ما تقع بين أيدى المحققين، فينبغى على المحقق أن يختار الأقدم منها، وخاصة إذا كانت مجهولة النسب، ولكن لا ينبغى اعتماد معيار الأقدم دائمًا، فقد تكون النسخة قديمة وأخطاؤها كثيرة وليست جيدة، فى حين أن النسخة المتأخرة نسخت من مبيضة المؤلف، وقد ضاعت مبيضة المؤلف، فحينئذ نعتمد المتأخرة. فمعيار اختيار الأقدم هو معيار عام، ولكن قد تكون المتأخرة أعلى رتبة منها.

وقد يقول البعض: يجب أن ننظر إلى معيار اكتمال النسخة، ثم نعتمد النسخة الكاملة على الناقصة. وهو كلام خطير، فنجد مثلا كتاب (الكامل فى الضعفاء لابن عدى)، هذا الكتاب له نسخة فى مكتبة الظاهرية ناقصة من أولها ومن آخرها أيضًا، أى حوالى جزأين من أولها وجزأين من آخرها، ولكن باقى الكتاب موجود. وهناك نسخة أخرى كاملة فى مكتبة أحمد الثالث، ولكن نسخة الظاهرية قَيِّمَة جدًا وموثقة بطرق مختلفة، بالإسناد والسماعات وخطوط العلماء وقراءة العلماء، وغيرها كثير. لا تكاد تجد فيها خطأ. والمشكلة تكمن فى أن ابن عدى ذلك العالم الذى لا يجارى فى العلل والرجال كان يلحن فى اللغة، وهو فى كتابه يبدأ بترجمة للراوى مثل اسمه ومولده، ثم يذكر أقوال العلماء فيه، ثم يذكر رواياته الحديثية، وكل هذا لا تجد فيه خطأ نحويًا واحدًا، ثم يعلق ابن عدى، وفى هذه التعليقات تجد اللحن؛ لأن ابن عدى رجل أعجمى يلحن فى الكلام، فعندما طبع المحققون هذا الكتاب - وهى طبعة سيئة من أردأ ما يكون - صححوا هذه الأخطاء النحوية، وهذا خطأ كبير منهم. لذا يقول أساتذتنا السابقون " النسخة القيِّمة المعتبرة هى التى تخرج كما كتبها صاحبها ".

لا يُتصرف فيها، فلا بد من اعتبار حال المؤلفين، إذا كان يخطئ فى اللغة تترك أخطاؤه كما هى، لأن الكتاب يعبر عن شخصية المؤلف وعن ثقافته وثقافة العصر، وإلا اختلطت الأمور حينئذ.

يقول البعض: لا بد من مراعاة معيار أن تكون النسخة مقروءة. فإذا وجدنا نسخة سهلة القراءة ونسخة أخرى عسرة القراءة، نقدم السهلة على العسرة، وهذا كلام غريب جدًا، وهو فى الحقيقة من المستشرقين، وكتبه بعض العلماء الذين كتبوا فى علم التحقيق وهم كبار، وهذا شىء غريب أيضًا.

فى بعض الأحيان تكون النسخة عسرة القراءة هى الأفضل والأجود، والمحقق، الذى لا يستطيع قراءتها يتركها لمن يستطيع. وهناك من يقول : نقدم النسخة القليلة الأخطاء.

وقد أشرنا من قبل إلى كتاب الكامل لابن عدى، فإن نسخته التى بها أخطاء نحوية هى القيِّمة. لذا لا يمكن جعل هذه المعايير عامةً.

هناك أمر مشترك بين النسخة الأم والنص المختار، فإذا وجدت نسخة بخط المؤلف فى آخر حياته تُثبت كما هى حتى بأخطائها، وينبه على الأخطاء فى الحواشى، وهناك حقيقة بعض المحققين يجعلون من أنفسهم شركاء للمؤلف، فيصححون ويغيرون، وهو هنا لا يقدم كتابًا لمؤلف، وإنما صار شريكًا له فى الكتاب، قرأت أيضًا لجماعة من المحققين الكبار يقولون: لا بد أن نختار نسخةً أمًّا، حتى ولو لم توجد مبيضة المؤلف أو نسخة قرئت عليه، أو قرأها المؤلف، أو نسخة موثقة جدًّا. وهذا كلام عجيب فكيف نختار إذن نسخة أمًّا، ولا تتوفر فى النسخة هذه الشروط؟ ولكنى أرى فى هذه الحال أن نتبع طريقة النص المختار، أو التلفيق بين النسخ، فليس دائمًا نستطيع أن نختار نسخة أمًّا، ونحن لا نستطيع أن نعتمد نسخة أمًّا ونضعها فى الصلب، ثم نضع فروق النسخ فى الحاشية، مع احتمال أن تكون هناك مواضع تكون فيها النسخ الأخرى أصح.

وفى النهاية فهذه أمور عامة أحببت أن أشير إليها، وصلى الله على سيدنا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

العودة لصفحة المؤتمر