تحقيق مخطوطات السنة : اختيار النسخ وطرائق العمل
نص كلمة أ.د. فيصل الحفيان
أستاذ علم المخطوطات ومنسق البرامج بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة
العودة لصفحة المؤتمر
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
لا بد أن أعترف بداية أننى لست من أهل الحديث، فأنا ضيف عليكم، وخاصة أننى أمام علماء الحديث، وأنا أعرف أن لعلماء الحديث مصطلحات قد أكون بعيدًا عنها إلى حد ما. ولكن عذرى أن مدخلى إلى ذلك هو التحقيق.
والتحقيق كما تعلمون هو علم إجرائى، لا علاقة له بالنص، أقصد بموضوع النص، ويتعامل مع النصوص بغض النظر عن موضوعاتها وعن انتماءاتها المعرفية، فهو يتعامل مع صور لغوية يريد أن يؤكدها ويحررها ويوثقها، ويعود بها إلى سيرتها الأولى عندما صدرت عن صاحبها.
لكن دائمًا تشغلنى مسألة علاقة علم التحقيق بالمعرفة، هل هناك خصوصية لمعرفة ما تجعلنا نقول إن هناك إجراءات خاصة قد تصل بهذا اللون من المعرفة وتجعل التحقيق ينحو فى إجراءاته منحًى مختلفًا؟
كنت كتبت بحثًا فى هذا حول خصوصية التراث العلمى، والآن لفتنى هذا المؤتمر إلى قضية أخرى هى: خصوصية علوم السنة.
فى البداية أفترضتُ أننا لا بد أن نفرق من وجهة نظر تحقيقية بين السنة وعلوم السنة، بين الحديث وعلوم الحديث. بالطبع أنتم تعرفون - وكلم أساتذتى - أن السنة هى مأثور النبى صلى الله عليه وسلم، وأن علوم السنة هى تلك الحركة العلمية التى حامت حول هذا المأثور. وبالطبع أيضا هناك فرق بين السنة والحديث، على الرغم من أنهم يُسَوُّونَ بينهما أحيانًا، غاضين النظر عن مسألة لغوية، فالحديث أبدًا مرتبط باللسان، أما السنة فيمكن أن تشمل من وجهة النظر اللغوية اللسان والفعل والسيرة، حتى الحركات والسكنات كما يقولون.
إذن هناك فرق بين السنة وبين علوم السنة، هل هناك خصوصية أيضًا ترتب على هذه التفريقات؟
أنا أقول نعم نحن - فى السنة - فى المأثور نفسه نتعامل مع لفظ النبى صلى الله عليه وسلم ومع الطرق التى وصل إلينا هذا القول أو هذا من خلالها، نحن نتعامل مع متن ومع سند، نحن هنا نتعامل مع السنة ومع المأثور، إنما نحن مع علوم السنة فى واد آخر، فى قضية أخرى، فى اجتهادات أرادت أن تقنن الحركة - حركة السنة - ووصولها إلينا.
بعد هذه التفرقة أود أن أقول إن خصوصية المأثور نفسه تفرض علينا أن نتعامل معه من وجهة النظر التحقيقية تعاملاً خاصًّا، لماذا؟ لأن السنة نص دينى، هناك ربط دائم بين التحقيق ودرجة التحقيق، فكل النصوص للتحقيق، ولكن هناك نص أعلى من نص ؛ لأن له قدسية، فالألفاظ أو الصور اللغوية، والحروف والتراكيب كلها يتعبد بها، كل ما علت درجة النص تطلب الأمر دقة أكثر فى التعامل مع هذا النص.
يتضح الأمر أكثر عندما نوازن بين نص دينى ونص علمى خالص، أنت حينما تحقق نصًّا فى الطب أو فى الكيمياء أو فى الفيزياء أو فى الرياضيات - ما يهمك هو مدلولات النص ؛ لا ألفاظه، وإذن فدرجة التحقيق تصبح أعلى مع النص الدينى، يقترب من النص الدينى النص الإبداعى، مثل نصوص الشاعر والقاص والأديب؛ لأن لحروفه وألفاظه وتراكيبه مقاصد إبداعية، هو يريد أن تلتزم بها كما بها، هى مسئوليته، وليس فقط مقولات هذا النص أو أفكاره أو ما وراءه من معانٍ.
فى النص فى المأثور نفسه نحن نتعامل مع متن ومع سند، المتن كما قلت يُتَعَبَّد به وله قدسية ؛ إذن لا بد أن نكون أكثر حرصًا ودقة وضبطًا ويقظة وحذرًا ونحن نتعامل مع هذا النص. فالمفارقة بين النصوص دائمًا مرتبطة بثبات النص، وأنا أقصد بالنص هنا الصورة اللغوية، بمقدار ثبات هذا النص، كما أراده صاحبه، تعلو درجة التحقيق وتصبح مسئولية المحقق أكبر.
أما مع السند الذى اعتبرته جزءًا من المأثور؛ لأن المأثور لا يكتمل إلا به. لو افترضنا مثلاً أن نص المتن هو هو، واختلف سنده أو اختلفت أسانيده، ألا يختلف الأمر؟ بلى، قد تحكم على المتن نفسه من جهة بالضعف، ومن جهة أخرى بالقوة أو بالصحة أو بالحسن. وإذن فالسند جزء من المأثور، لا يصل إليك المأثور بضوابطه وقواعده إلا به. هذا المأثور مكون من أسماء، والأسماء هذه كلها مزالق عديدة، لماذا؟ لأن الاسم لا ضابط له، أنت لا تستطيع أن تحكمه بقاعدة نحوية، ولا تستطيع أن تحكمه أيضًا بسياق معنى أو بسياق آخر؛ إذن أنت أيضًا مع السند بوصفك محققًا لكتب الحديث أو لكتب علوم السنة مطالب بحذر لا يقل عن حذرك وأنت تتعامل مع المتن نفسه.
أنتقل إلى علوم السنة، مع علوم السنة هناك علاقة خطيرة بين التحقيق وعلوم السنة، لذلك أنا أحب أهل الحديث، لولا أهل الحديث لما كان هناك تحقيق، التحقيق علم خرج من رحم علم الحديث، وكل من كتب فى هذا العلم - حتى العصر الحديث حتى وصلنا إلى يومنا هذا - هم عالة على أهل الحديث، والأقوال التى تتوجه نحو أن المستشرقين أو المحدثين هم الذين صنعوا علم التحقيق أقوال مجانبة للصواب، كل ما حدث أن هناك هوة حضارية بيننا وبين تراثنا، جاء الآخر أو غيرنا انتبه إليها فقعدها وقننها، وأظهرها إلينا فى مطبوعات، إنما الحقيقة أنه لا يوجد جزئية ولا تفصيلة صغيرة لم يتعرض لها علماء الحديث فى ضبط النصوص.
القضية كلها أن علم الحديث ولد من رحمه علم التحقيق، وأصبح أداة منهجية لضبط النصوص جميعًا، ثم أصبح علم التحقيق نفسه أداة لضبط كتب الحديث نفسها. هذه العلاقة الجدلية بين العلمين لا بد أن تكون فى حسباننا ونحن نتعامل مع كتب السنة وعلوم السنة، لماذا؟ لأن علوم السنة تحديدًا هى العلوم التى نشأت فيها اصطلاحات التحقيق، فأنت إن لم تكن عارفًا بتلك الاصطلاحات والفروق بينها ودلالاتها ؛ فأنت لا تستطيع أن تتعامل مع النص المحقق.
بعد هذه النقطة أود أن أشير إلى نقطة أخرى لها صلة بخصوصية كتب علم السنة، أنت مع كتب علوم السنة أمام عالم مختلف عن عوالم النصوص الأخرى، هذا العالم هو ما نسميه فى علم المخطوطات بخوارج النص، أو الطباعة، هذه الظاهرة موجودة فى كتب أخرى، لكنها ليست بالكثافة ولا التركيز ولا الأهمية التى تجدها فى كتب السنة وفى كتب علوم السنة على التفرقة التى أشرنا إليها، وإذن فأنت تدخل عنصرًا جديدًا وأنت تتعامل مع هذه الكتب الخاصة.
النسخة الموثقة فى كتب الحديث وكتب علوم الحديث ذات أهمية عليا، تعلو على كل المقاييس التى يذكرها علماء التحقيق، يقولون هناك نسخة قديمة وهناك نسخة ناقصة، وهناك نسخة كتبها المؤلف ونسخة كتبها تلميذه، نسخة تامة ونسخة ناقصة، النسخة الموثقة أولاً فى هذه المجال المعرفى المهم؛ لأنها تدل على المساحة العلمية للتداخل العلمى الذى جرى لهذا النص، وكل تداخل علمى للنص يعطيك فيه ثقة أكثر، عندما تجد عليه سماعًا أو تجد عليه قراءةً، أو تجد عليه إجازةً، أو تجد كل هذه القيود التى نعرفها - نحن طلاب علم الحديث - لا بد أن نثق بهذه النسخة أكثر؛ لأن العيون تعاورتها، والأيدى تداولتها.
وهناك نقطة أخرى تتعلق بكتب علوم السنة، إنها ظاهرة الروايات، وظاهرة الإبرازات أكثر ما يكون فى كتب علوم السنة، وهذه أيضًا لا بد من التنبه إليها؛ لأن مسألة التلفيق بين الروايات، ومسألة التلفيق بين الإبرازات، لا يصح عندما تخلط نصًا بنص، فأنت بذلك تأتى بنص جديد لم يضعه صاحب الإبرازة الأولى ولا صاحب الإبرازة الثانية، لا بد من وضع حد فاصل بين الروايات.
نحن نعرف مثلاً أن للموطإ خمس عشرة رواية، كل رواية لها خصوصيتها وظروفها، إذن نحن عندما نتعامل بأن أصحاب الحديث هم أكثر الناس إملاءً، وهم أكثر الناس حرصًا على أن يشافهوا وأن يلتقوا وأن يتقابلوا مع طلبتهم، وكل ذلك يجعل لكتب علوم السنة خصوصيتها التى لا نستطيع أن نغفلها ونحن نتعامل مع النص الحديثى أو النص الذى يتعرض للحديث.
العودة لصفحة المؤتمر